اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

قوله : { بَيْنَكُم } : في هذا الظرف وجهان :

أحدهما : أن يتعلَّق ب " تَأْكُلُوا " بمعنى : لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل .

والثاني : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من " أمْوَالِكُمْ " أي : لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم ، وقدَّره أبو البقاء{[2748]} أيضاً بكائنةٍ بينكم ، أو دائرةً بينكم ؛ وهو في المعنى كقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وفي تقدير " دَائِرَةً " - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نظرٌ ، إلاَّ أن يقال : دلَّت الحال عليه .

قوله : " بالبَاطِلِ " فيه وجهان :

أحدهما : تعلُّقه بالفعل ، أي : لا تأخذوها بالسبب الباطل .

الثاني : أن يكون حالاً ؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ولكن في صاحبها احتمالان :

أحدهما : أنه المال ؛ كأنَّ المعنى : لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل .

والثاني : أن يكون الضمير في " تَأْكُلُوا " كأنَّ المعنى : لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ ، أي : مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ .

فصل في سبب نزول الآية

قيل : نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، ادعى عليه ربيعة بن عَبْدَان الحَضْرَميُّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً ، فقال : إنه غلبني عليها ، فقال النَّبيُّ - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - للحضرميِّ : " أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قال : لا ؛ قال : " فَلَكَ يَمِينُهُ " فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أَمَا إنْ يَحْلِفْ عَلَى مَالِهِ ، ليَأْكُلَهُ ظُلْماً ، ليَلْقَيَنَّ اللَّهَ ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ " فأنزل الله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل{[2749]} ، أي : من غير الوجه الذي أباحه الله ، و " البَاطِلُ " في اللغة الذَّاهِبُ الزائل ، يقال : بَطَل الشَّيْءُ بُطُولاً وبُطْلاناً ، فهو باطلٌ ، وجمع الباطل : بَوَاطِلُ ، وأَبَاطِيلُ جمع أُبْطُولَة ، يقال : بَطَل الأجير يَبْطُل بطالةً ، إذا تعطَّل ، وتَبَطَّل : اتَّبع اللَّهو ، وأبْطَلَ فلانٌ ، إذا جاء بالبَاطِل ، وقوله تعالى : { لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ } [ فصلت : 42 ] قال قتادة{[2750]} : هو إبليسُ ؛ لا يزيد في القرآن ، ولا ينقص ، وقوله عزَّ وجلَّ { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ }

[ الشورى : 24 ] يعني : الشِّرك ، والبَطَلَةُ : السَّحَرةُ .

قوله : " لاَ تَأْكُلُوا " ليس المراد منه الأكل خاصَّة ؛ لأنَّ غير الأكل من التصرّفات ؛ كالأكل في هذا الباب ، لكنَّه لمَّا كان المقصود الأعظم من المال ، إنَّما هو الأكل ، وصار العرف فيمن أنفق ماله ، أن يقال : أكله ؛ فلهذا عبَّر عنه بالأكل .

فصل فيما يحل ويحرم من الأموال

قال الغزاليُّ - رحمه الله تعالى - في كتاب " الإحياء " : المال إنَّما يحرم إما لمعنًى في عينه ، أو لخللٍ في جهة اكتسابه .

فالقسم الأول : الحرام لمعنىً في عينه .

اعلم أنَ الأموال : إمَّا أن تكون من المعادن ، أو من النبات ، أو من الحيوانات .

أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيءٌ منها ، إلاَّ من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السَّمِّ .

وأما النباتُ : فلا يحرم منه إلاَّ ما يزيل الحياة ، أو الصِّحَّة ، أو العقل .

فمزيل الحياة : كالسُّموم ، ومزيل الصِّحَّة : الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل : الخمر ، والبنج ، وسائر المسكرات .

وأما الحيوانات : فتقسم إلى ما يؤكل ، وإلى ما لا يؤكل .

وما يؤكل : إنَّما يحلُّ ، إذا ذكِّي ذكاته الشَّرعيَّة ، ثم إذا ذُكِّيت ، فلا تحلُّ جميع أجزائها ، بل يحرمُ منها الدَّم ، والفَرْثُ .

القسم الثاني : ما يحرم لخللٍ في جهة إثبات اليد عليه ، فنقول :

أخذ المال : إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره ؛ كالإرث ، والذي باخيتاره : إما أن يكون مأخوذاً بأمر مالكه ، وإمَّا أن يكون قهراً ، أو بالتَّراضي .

والمأخوذ قهراً : إما أن يكون لسقوط عصمة المالك ؛ كالغنائم ، أو باستحقاق الأخذ ؛ كزكاة الممتنعين ، والنفقات الواجبة عليهم .

والمأخوذ تراضياً : إما أن يؤخذ بعوضٍ ، كالبيع ، والصَّداق ، والأُجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض ؛ كالهبة ، والوصيَّة .

فحصل من هذا التَّقسيم أقسامٌ ستةٌ :

الأول : ما يؤخذ من غير ملكٍ ؛ كنيل المعادن ، وإحياء الموات ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء من الأنهار ، والاحتشاش ؛ فهذا حلالٌ ، لا يكون المأخوذ مختصَّاً بذي حرمة من الآدميِّين .

الثاني : المأخوذ قهراً ممَّن لا حرمة له ، وهو الفيءُ والغنيمة وسائر أموال الكُفَّار والمحاربين ، فذلك حلالٌ للمسلمين ، إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسّموه بين المستحقِّين بالعدل ، ولم يأخذوه ممَّن كان له حرمةٌ بأمانٍ ، أو عهدٍ .

الثالث : ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه ؛ وذلك حلالٌ ؛ إذا تَمَّ سبب الاستحقاق ، وتَمَّ وصف المستحقِّ ، واقتصر على قدر المستحقِّ .

الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة ، فهو حلالٌ ، إذا روعِيَ شرط العوضين ، وشرط العاقدين ، وشرط اللَّفظين ، أعني : الإيجاب والقبول عند من يشترطهما ، مع ما قيَّد الشَّرع به من اجتناب الشُّروط المفسدة .

الخامس : ما يؤخذ بالرِّضَا من غير عوضٍ ؛ كما في الهبة ، والوصيَّة ، والصَّدقة ، إذا روعيَ شرط المعقود عليه ، وشرط العاقدين ، ولم يؤدِّ إلى ضرر .

السادس : ما يحصل بغير اختياره ؛ كالميراث ، وهو حلالٌ ، إذا كان المورِّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدَّين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل القسمة من الورثة ، وإخراج الزَّكاة ، والحجِّ والكفَّارة الواجبة ، فهذه مجامع مداخل الحلال ، وكُلُّ ما كان بخلاف ذلك كان حراماً .

إذا عرفت ذلك ، فنقول : المال : إما أن يكون له ، أو لغيره .

فإن كان لغيره : كان حرمته لأجل الوجوه السِّتَّة المذكورة ، وإن كان له ، فأكله بالحرام : إما بأن يصرفه في شرب الخمر ، أو الزِّنا ، أو اللِّواط ، أو القمار ، أو الشُّرب المحرَّم ؛ وكلُّ هذه الأقسام داخلةٌ تحت قوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا } .

قوله : وَتُدْلُوا بِهَا " في " تُدْلُوا " ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبله ؛ ويؤيِّده قراءة أُبيٍّ : " وَلاَ تُدْلُوا " بإعادة لا الناهية .

والثاني : أنه منصوبٌ على الصَّرف ، وقد تقدَّم معنى ذلك ، وأنه مذهب الكوفِيِّين ، وأنه لم يثبت بدليل .

والثالث : أنه منصوبٌ بإضمار " أنْ " في جواب النهي ، وهذا مذهب الأخفش{[2751]} ، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ ، ومَكِّيٌّ ، وأبو البقاء{[2752]} ، قال أبو حيَّان : " وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا ، فتلك مسألة : " لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ ، وتَشْرَب اللَّبَنَ " قال النحويُّون : إذا نصب ، كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى : لا يصحُّ في الآية لوجهين :

أحدهما : أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده ، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما ؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما ، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً ؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات ؟

والثاني - وهو أقوى- : أنَّ قوله " لِتَأْكُلُوا " علَّةٌ لما قبلها ، فلو كان النهيُ عن الجمع ، لم تصحَّ العلّةُ له ؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين ، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما ، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما : وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام " .

والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو ، وهو إرساله إلى البئر ؛ للاستقاء ؛ يقال : " أدْلَى دَلْوَهُ " إذا أرسلها ، ودَلاَهَا : إذا أخْرَجَها ، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ ، كأنه يرسلها ، ليصل إلى مراده ؛ كإدلاء المستقي الدلو ؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة ، أو رحم ؛ إذا كان منتسباً ، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة .

و " بِهَا " متعلِّقٌ ب " تُدْلُوا " وفي الباء قولان :

أحدهما : أنها للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام .

والثاني : أنَّها للسبب ؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال ؛ إمَّا لعدم بيِّنةٍ عليها ، أو بكونها أمانةً ؛ كمال الأيتام ، والضمير في " بِهَا " : الظاهر أنه للأموال : وقيل : إنه لشهادة الزُّور ؛ لدلالة السِّياق عليها ، وليس بشيء .

و " مِنْ أَمْوَال " في محلّ نصبٍ صفةً ل " فَرِيقاً " أي : فريقاً كائناً من أمْوَالِ النَّاس .

قوله : " بالإِثْم " تحتمل هذه الباء : أن تكون للسَّبب ، فتتعلَّق بقوله : " لِتَأْكُلُوا " وأن تكون للمصاحبة ، فتكون حالاً من الفاعل في " لتَأْكُلُوا " وتتعلق بمحذوفٍ أي : لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم .

فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء

في تسمية الرَّشوة{[2753]} بالإدلاء وجهان :

أحدهما : أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة ؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء ، فالمقصود البعيد يصير قريباً ، بسبب الرَّشوة .

والثاني : أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت ؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء ، ثم المفسِّرون ذكروا وجوهاً{[2754]} ؟

أحدها : قال ابن عبَّاس ، والحسن - رضي الله عنهما - وقتادة : المراد منه الودائعُ ، وما لا يقوم عليه البيِّنة{[2755]} .

وثانيها : أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ، ليبقى لهم بعضه{[2756]} .

وثالثها : قال الكلبيُّ : المراد بالإدلاء إلى الحكَّام : هو شهادة الزُّور{[2757]} .

ورابعها : قال الحسن : هو أن يحلف ؛ ليذهب حقَّه{[2758]} ؛ كما تقدَّم في سبب النُّزول .

وخامسها : وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة{[2759]} ، وهذا أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكُلِّ ؛ لأنها بأسرها أكلٌ للمال بالباطل .

وقوله " فَريقاً " أي : طائفةً من أموال النَّاس ، والمراد " بالإثْمِ " الظلمُ ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - " الإثْمُ " هنا هو اليمين الكاذبة{[2760]} .

فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال

قال القرطبيُّ{[2761]} : اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ ، قلَّ أو كثر ، فإنَّه يفسَّق بذلك ، وأنه يحرم عليه أخذه ؛ خلافاً لبشر من المعتمر ، ومن تابعه من المعتزلة ؛ حيث قالوا : إنَّ المكلَّف لا يفسَّق إلاَّ بأخذ مائتي درهمٍ ، ولا يفسَّق بدون ذلك . وقال ابن الجُبَّائيِّ : لا يفسَّق إلاَّ بأخذ عشرة دراهم ، ولا يفسَّق بما دونها .

وقال أبو الهُذَيْلِ : يفسَّق بأخذ خمسة دراهم ، فما فوقه ، ولا يفسَّق بما دونها ، وهذا كلّه مردودٌ بالقرآن ، والسُّنَّة ، وباتفاق علماء الأمَّة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " إنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " {[2762]} .

وقوله تعالى : " وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " لِتَأْكُلُوا " وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال ، وأمَّا من لا يجيز ذلك ، فيجعل " بالإثْمِ " غير حالٍ .

والمعنى : وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون ، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح ، مع العلم بقبحه أقبح ، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ ، وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : " اختصَمَ رَجُلاَن إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عالمٌ بالخُصُومة ، وجاهلٌ بها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالم ، فقال مَنْ قَضِيَ عليه : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، والَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ ، إنِّي مُحِقٌّ بحَقٍّ فقال : إن شِئْتَ أُعَاوِدُهُ ، فَعَاوَدَهُ ، فَقَضَى لِلعَالِم ، فقال المَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلاً ، ثُمَ عَاوَدَهُ ثَالِثاً ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئ مُسْلِم بخصومته ، فإنَّما اقتطع قطعةً من النَّارِ " فقال العالمُ المقضِيُّ له : يا رَسُولَ الله ، إنَّ الحقَّ حقُّه ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " مَنِ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وجَدَلِهِ حَقَّ غَيْرِهِ ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " {[2763]} .

وعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، وبجَّل ، ومجَّد ، وعظَّم : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ، فَلاَ يَأْخُذَنَّهُ ؛ فإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " {[2764]} .


[2748]:- ينظر: الإملاء 1/84.
[2749]:- أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في "الدر المنثور" (1/367).
[2750]:- ينظر: تفسير القرطبي 2/226.
[2751]:- ينظر: معاني القرآن للأخفش 1/160.
[2752]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/84.
[2753]:- الرشوة عند الشافعية: قال ابن الرفعة في "كفاية النبيه شرح النبيه" عند قوله: ولا يجوز للقاضي أن يرتشي: لما روى أبو بكر بن المنذر، عن أبي هريرة-رضي الله تعالى عنه- قال: "لعن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي"، أخرجه ابن ماجه، وروى ثوبان عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله الراشي والمرتشي الذي يمشي بينهما" وروى أنس نحوه؛ ولأنه إن أخذ ليحكم بغير الحق حرام، والأخذ عليه حرام. وإن أخذ على إيقاف الحكم، فهو يلزمه الحكم لمن وجب له، فتركه حرام، وإن أخذ على أن يحكم بالحق، فليس له أن يأخذ الرزق على ذلك من الإمام، فليس له أن يأخذ عليه عوضا آخر. أما دفع الرشا فهو يجوز، قال الأصحاب، كما حكاه أبو الطيب الماوردي، وابن الصباغ:- إن كان يطلب بها دفع الحكم بغير الحق، أو إيقاف الحكم بالحق، حرم عليه، وإن كان يطلب بها وصولا إلى حقه، لم يحرم عليه، وإن كان حراما على غيره، كما لا يحرم أن يفك الأسير بماله، قال في "المرشد": ويحتمل لعنة الراشي والمرتشي على ما إذا قصد بها إيقاف الحكم بالباطل، ولذلك قال الله تعالى: {لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}، والمتوسط بينهما هو تابع لموكله منهما، فإن توكل عنهما، كان فعله حراما، وهذا الكلام من الأصحاب يدل على أن الرشوة تكون لطلب حق، ولطلب باطل. وقد حكي عن ابن كج أنه قال: الرشوة عطية، بشرط أن يحكم له بغير حق، والهداية عطية مطلقة، وكلام الماوردي يخالفه؛ فإنه قال: الرشوة ما تقدمت الحاجة، والهداية ما تأخرت، والذي حكاه الغزالي-رحمه الله تعالى- في الإحياء منطبق على الأول؛ فإنه قال: المال إن بذل لغرض أجل فهو قربة وصدقة؛ وإن بذل لغرض مال في مقابلته، فهو هبة بثواب مشروط، أو متوقع؛ وإن كان لغرض عمل محرم أو واجب متعين، فهو رشوة؛ وإن كان مباحا فإجارة أو جعالة؛ وإن كان للتقرب والتودد للمبذول له، فإن كان لمجرد نفسه، فهدية وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بعلم أو صلاح أو نسب، فهدية، وإن كان بالقضاء والعمل بولاية، فرشوة. قال القاضي أبو الطيب-رحمه الله تعالى- في تعليقه، وكذا الشيخ أبو حامد: إن تحريم أخذ الرشوة على الحاكم إذا كان له رزق من بيت المال، فأما إذا لم يكن له رزق، أي: وكان ممن يجوز أن يفرض قال للمتحاكمين: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه؛ فإنه حينئذ يحل له ذلك، وعلى ذلك جرى الجرجاني-رحمه الله- في "التحرير" قال ابن الصباغ: ويجوز مثل ذلك؛ لأنه لم يذكر أنه طلبه من أحدهما. والرشوة عند الحنفية، قال في فتاوى قاضيخان: وإذا ارتشى ولد القاضي، أو كاتبه، أو بعض أعوانه؛ ليعين الراشي عند القاضي، ففعل؛ إن لم يعلم القاضي بذلك، نفذ قضاؤه، وكان على المرتشي رد ما قبض، وإن علم بذلك القاضي، كان قضاؤه مردودا. وإذا تقلد القضاء بالرشوة، لا يصير قاضيا، وتكون الرشوة حراما على الراشي، وعلى الآخذ، ثم الرشوة على وجوه أربع: منها: ما هو حرام من الجانبين أحدها هذه. والثاني: إذا دفع الرشوة إلى القاضي؛ ليقضي له، وهذه الرشوة حرام من الجانبين، سواء كان القضاء بحق أو بغير حق. ومنها: إذا دفع الرشوة لخوف على نفسه أو ماله، وهذه الرشوة حرام على الآخذ، وغير حرام على الدافع؛ وكذا إذا طمع في ماله، فرشاه ببعض ماله. ومنها: إذا دفع الرشوة ليسوي أمره عند السلطان، فأحل له الدفع، ولا يحل للآخذ أن يأخذها، فإن أراد أن يحل للآخذ، يستأجر الآخذ يوما إلى الليل بما يريد أن يدفع، فإنه تجوز هذه الإجارة، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في عمل غيره، هذا إذا أعطى الرشوة أولا ليسوّي أمره عند السلطان، وإن طلب منه أن يسوّي أمره ولم يذكر الرشوة؛ ثم أعطاه بعدما سوّى، اختلفوا فيه: قال بعضهم: لا يحل له أن يأخذ. وقال بعضهم: يحل، وهو الصحيح؛ لأن يراه مجازاة الإحسان فيحل له؛ كما لو جمعوا للإمام والمؤذن شيئا، وأعطوه من غير شرط-كان حسنا. وقال في "الفتاوى البزازية": القاضي لا يقبل هداية الأجنبي والقريب، إلا من كان يهدي قبله، وإن زاد يرد الزيادة إلا أن تكون خصومة، فلا يقبل منه أيضا، فإن قبل وأمكنه الرد، رد، وإلا وضع في بيت المال؛ وكذا في كل موضع ليس له القبول، وإن كان يتأذى به المعطي، أخذه ورد عليه قيمته، فإن قضى ثم ارتشى أو عكس، لا ينفذ، وإن تاب ورد المأخوذ، فهو على قضائه، لأنه بالفسق لا ينعزل. والهدايا ثلاث: حلال من الجانبين للتودد، وحرام منهما؛ وهو الإهداء للإعانة على الظلم، وحرام من جانب وهو الإهداء لكشف الظلم عنه؛ فهو حرام على الآخذ حلال للمعطي. والرشوة عند المالكية: فقال في "مختصر خليل" وشرحه لتلميذه بهرام: وحرم، يعني: طلب القضاء لجاهل وقاصد دنيا؛ لأن الجاهل ربما أداه جهله إلى مخالفة ما هو متفق عليه، والوقوع في الأمور المعضلة، وطالب الدنيا ربما أداه ذلك إلى الحيف؛ لتحصيل غرضه الفاسد. قال: ولا يحضر، يعني القاضي في الولائم إلا وليمة النكاح خاصة، ثم إن شاء أكل أو ترك من غير كراهة، وإن كانت الوليمة لغير النكاح، فأجيز له الحضور، وكره إلا ما كان من جهة ولده، أو والده ونحو ذلك. وفي "النوادر" عن أشهب: لا بأس أن يجيب الدعوة العامة وليمة، أو صنيعا عاما لفرح، فأما أن يدعى مع عامة لغير فرح، فلا يجيب، وكأنه دعي خاصة، إذ لعله إنما صنع ذلك لأجل القاضي؛ وكذا ليس له قبول هدية، ولو كافأ عليها أضعافها، وحمل الأشياخ قول ابن حبيب: لم يختلف العلماء في كراهة قبول الهداية، وهو مذهب مالك، وأهل السنة، على المنع، وسواء كان المهدي ممن له عند القاضي خصومة، أو لا، وقاله مطر، وابن الماجشون. وقال ابن عبد الحكم: له أن يقبل ممن لا خصومة له عنده. وقال أشهب: لا يقبلها من غير من يخاصم عنده، إلا أن يكافأه عليها من قريب، كولده، وأخيه، وعمه، وابن عمه، وخاله، وخالته، وعمته،وبنتها، ومن لا يدخل عليه به ظنه الشدة الداخلة والمنافية بينهما، وكذلك ذكر محمد بن سحنون عن أبيه، ونحوه في "الموازنة" وفي هدية من اعتادها قبل الولاية قولان: يريد جواز قبول القاضي الهدية ممن كانت عادته ذلك قبل الولاية، وعدم جوازه، والجواز لابن عبد الحكم، وقال مطر
[2754]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/101.
[2755]:- أخرجه الطبري في تفسيره (3/550) عن ابن عباس وذكره الرازي في "تفسيره" (5/101).
[2756]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/101.
[2757]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/101.
[2758]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/101.
[2759]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 5/101.
[2760]:- ينظر: تفسير البغوي 1/160.
[2761]:-ينظر: تفسير القرطبي 2/ 227.
[2762]:- أخرجه البخاري (7/ 182) كتاب الأضاحي باب من قال الأضحى يوم النحر (5550) ومسلم كتاب القيامة (29، 30، 31) وأحمد (5/40) والبيهقي (5/166، 8/19) والطبراني في "الكبير" (5/316) وابن خزيمة (2809) وأبو نعيم في "الحلية" (4/343) وابن سعد (2/1/132) وابن عبد البر في "التمهيد" (10/231) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/159) والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/85) وابن عساكر (6/58) والبغوي في تفسيره (3/91) والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 39، 442).
[2763]:- أخرجه مسلم كتاب الإيمان رقم (218) والنسائي (8/ 246) وأبو عوانة (1/32) وأحمد (5/ 260) والبيهقي (10/179) والطبراني في "الكبير" (1/ 246) والبغوي في "تفسيره" (1/370) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/186) وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" رقم (46353، 46373). وانظر: تفسير القرطبي (4/120)، (5/ 159)، (6/268).
[2764]:- أخرجه البخاري (3/236) كتاب المظالم باب إثم من خاصم (2458) و (9/132) كتاب الأحكام باب موعظة الإمام (7169) ومسلم كتاب الأقضية رقم 5 وأبو دود رقم (3583) وابن ماجه (2317) والنسائي (1256) وأحمد (6/ 320) والبيهقي (10/149) والبغوي في "تفسيره" (1/166) والبخاري في "الأدب المفرد" (259) وابن أبي شيبة (7/ 235) من حديث أم سلمة. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (2/777) رقم (2318) من طريق ابن أبي شيبة (14/269) قال الوصيري في "الزوائد" (2/ 214): إسناده صحيح ورجال رجال الصحيح.