الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

قولُه تعالى : { بَيْنَكُمْ } : في هذا الظرفِ وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بتأكلوا بمعنى : لا تَتَنَاقَلوها فيما بينكم بالأكلِ . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من " أموالكم " ، أي : لا تأكلوها كائنةً بينكم . وقَدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم أو دائرةٍ بينكم ، وهو في المعنى كقولِهِ : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وفي تقدير " دائرةً " - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نَظَرٌ لا يَخْفَى ، إلاَّ أَنْ يُقالَ : دَلَّتِ الحالُ عليه .

قولُه { بِالْبَاطِلِ } فيه وجهان ، أحدُهما : تعلُّقه بالفعل ، أي : لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ . الثاني : أَنْ يكونَ حالاً ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان ، أحدهما : أنه المالُ ، كأن المعنى ، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ ، والثاني : أَنْ يكونَ الضميرَ في " تأكلوا " كأنَّ المعنى : لا تأكلوها مُبْطِلين ، أي : مُلْتَبِسينَ بالباطِل .

قوله { وَتُدْلُواْ بها } في " تَدْلُوا " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبلَه ، ويؤيِّدهُ قراءة أُبيّ : " ولا تُدْلُوا " بإعادةِ لا الناهيةِ ، والثاني : أنَّه منصوبٌ على الصرف ، وقد تقدَّم معنى ذلك وأنه مذهبُ الكوفيين ، وأنه لم يَثْبُتْ بدليلٍ . والثالث : أنه منصوبٌ بإضمارِ أنْ في جواب النهي ، وهذا مذهبُ الأخفشِ ، وجَوَّزَهُ ابنُ عطيَّة والزمخشري ومكي وأبو البقاء . قال الشيخ : " وأَمَّا إعرابُ الأخفشِ وتجويزُ الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألةُ : " لا تأكل السمك وتشربَ اللبن " . قال النحويون : إذا نُصِبَ لِوَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أنَّ النهيَ عن الجمعِ لا يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن كلِّ واحدٍ منهما على انفرادِهِ ، والنهيُ عن كلِّ واحدٍ منهما يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن الجمعِ بينهما ؛ لأن الجمعَ بينهما حصولُ كلِّ واحدٍ منهما ، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً ، ألا ترى أنَّ أَكْلَ المالِ بالباطلِ حرامٌ سواءً أُفْرِدَ أم جُمِعَ مع غيرهِ من المُحَرَّمات . والثاني - وهو أَقْوَى - أَنَّ قولَه " لِتأكلوا " عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا ، فلو كان النهيُ عن الجمعِ لم تَصِحَّ العلةُ له ، لأنه مركبٌ من شيئين لا تَصِحُّ العلةُ أن تَتَرتَّب على وجودهما ، بل إنما تترتَّب على وجودِ أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموالِ إلى الحكام " .

و " بها " متعلقٌ ب " تُدْلُوا " ، وفي الباء قولان ، أحدُهما : أنها للتعديةِ ، أي لترسِلوا بها إلى الحكام ، والثاني : أنَّها للسببِ بمعنى أن المراد بالإِدْلاَءِ الإِسراعُ بالخصومةِ في الأموالِ إمَّا لعدمِ بَيِّنةٍ عليها ، أو بكونِهَا أمانةً كمالِ الأيتام . والضميرُ في " بها " الظاهرُ أنه للأموالِ وقيل : إنه / لشهادةِ الزُّورِ لدلالةِ السياقِ عليها ، وليس بشيءٍ .

و " من أموال " في محلِّ نصبٍ صفةً ل " فريقاً " ، أي : فَريقاً كائناً من أموالِ الناس .

قوله : { بِالإِثْمِ } تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله " لتأكلوا " وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في " لتأكلوا " ، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم . " وأنتم تعلمون " جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ " لتأكلوا " ، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ " بالإِثم " غيرَ حالٍ .