فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } .

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } هذا يعم جميع الأمة ، وجميع الأموال لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل ومأكول بالحل لا بالإثم ، وإن كان صاحبه كارها كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه ، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها ونفقة من أوجب الشرع نفقته ، والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه فهو مأكول بالباطل وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن ، وثمن الخمر والملاهي ، وأجر المغني ، والقمار ، والرشوة في الحكم وشهادة الزور والخيانة في الوديعة والأمانة ، والأكل بطريق التعدي والنهب والغصب ، والباطل في اللغة الذاهب الزائل والمعنى بالسبب الباطل أو مبطلين أو متلبسين بالباطل ، عن ابن عباس قال : هذا الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه ، وقال مجاهد معناه لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم .

{ وتدلوا بها إلى الحكام } مجزوم عطفا على { تأكلوا } فهو من جملة المنهي عنه أي لا تلقوا أمور تلك الأموال التي فيها الحكومة إلى الحكام ، يقال أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال أدلى دلوه أرسلها ، والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام ليعينوكم على إبطال حق أو تحقيق باطل ، وأما الإسراع بها لتحقيق الحق فليس مذموما .

وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج ، فمن حكم له القاضي بشيء مستندا في حكمه إلى شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يحل له أكله فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل ، وهكذا إذا أرشى الحاكم فحكم له بغير الحق فإنه من أكل أموال الناس بالباطل ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال .

وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك ، وهو مردود بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) وهو في الصحيحين وغيرهما } {[183]} .

وقيل معناه لا تأكلوا المال بالباطل وتنسبوه إلى الحكام والأول أولى وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة وأن قضائي لا يحل لك حراما { لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم } أي قطعة أو جزءا أو طائفة فعبر بالفريق عن ذلك وأصل الفريق القطعة من الغنم تشذ عن معظمها ، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم ، وسمي الظلم والعدوان إثما باعتبار تعلقه بفاعله ، قال ابن عباس أي باليمين الكاذبة ، وقيل بشهادة الزور .

{ وأنتم تعلمون } أي حال كونكم عالمين أنكم على الباطل أو أن ذلك الباطل ليس من الحق في شيء وهذا أشد لعقابهم وأعظم لجرمهم .


[183]:حديث (أنكم تختصمون لدي...) رواه مسلم 1713 وفي رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: (إنما أنا بشير وإنه يأتيني الخصم) فلعل بعضكم أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليلحمها أو يذرها).