محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون 188 } .

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل / كالآكل مال نفسه بالباطل ، ونظير ذلك قوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } {[1115]} . وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } {[1116]} بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضا ولا يقتل بعضكم بعضا . لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة . وكذلك تفعل العرب . تكني عن أنفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ، لأن أخا الرجل عندها كنفسه ؛ فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل ، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه . اه .

و { بينكم } : إما ظرف ل { تأكلوا } بمعنى : لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل ، أو حال من ( الأموال ) أي : لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم . و{ بالباطل } في موضع نصب ب { تأكلوا } أي : لا تأخذوها بالسبب الباطل أي الوجه الذي لم يبحه الله تعالى ويجوز أن يكون حالا من { الأموال } أي : لا تأكلوها متلبسة بالباطل . أو من الفاعل في { تأكلوا } أي : لا تأكلوها مبطلين أي متلبسين بالباطل { وتدلوا بها إلى الحكام } أي : تخاصموا بها أي : بأموالهم إلى الحكام ، مجزوم عطفا على النهي ، ويؤيده قراءة أبيّ { ولا تدلوا } بإعادة ( لا الناهية ) والإدلاء : مأخوذ من إدلاء الدلو وهو إرسالها في البئر للاستقاء ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل توصّلا إلى شيء ، ومنه يقال للمحتج : / أدلى بحجته . كأنه يرسلها ليصير إلى مراده ، كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء . وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم ، إذا كان منتسبا إليه . فيطلب الميراث بتلك النسبة . ف ( الباء ) صلة الإدلاء تجوزا به عن الإلقاء كما ذكرناه . والمعنى : لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام . أولا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس . وقد ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم{[1117]} الراشي والمرتشي والرائش ) وهو الواسطة الذي يمشي بينهما رواه أهل ( السنن ) . وذلك لأن ولي الأمر إذا كان أكل هذا السحت أعني الرشوة المسماة بالبرطيل ، وتسمى أحيانا بالهدية وغيرها احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان ، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، هذا مقصود الولاية . وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود ، مثل من نصبته ليعينك على عدوّك فأعان عدوك عليك . وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين . و{ الحكام } : جمع حاكم وهو منفذ الحكم بين الناس كالحكم ، محركة . { لتأكلوا } أي : بواسطة حكمهم الفاسد ، وبالتحاكم إليهم { فريقا } أي : طائفة وقطعة { من أموال الناس بالإثم } بما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة وحكمهم الفاسد فإنه لا يفيد الحل والظلم . ف ( الباء ) للسببية . متعلّقها { لتأكلوا } . وجوز كونها للمصاحبة . فالمجرور حال من فاعل { لتأكلوا } أي : متلبسين بالإثم { وأنتم تعلمون } أي : أنكم على الباطل . وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح ، وصاحبه أحق بالتوبيخ ، فالتقييد لكمال تقبيح حالهم .

قال الراغب : أي إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم ، تنبيها على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه ، وما علمتم منه لا بما يظهر .

/ وقال ابن كثير في ( تفسيره ) : قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : ( هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام . وهو يعرف أن الحق عليه . وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام ) . وكذا روى عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّيّ ، ومقاتل بن حيّان ، وعبد الرحمان بن زيد أنهم قالوا : ( لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم ) . وقد ورد في ( الصحيحين ) {[1118]} عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا إنما أنا بشر . وإنما يأتيني الخصم . فلعل بعضك أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها ) . فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر . فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حلال ، ولا يحرم باطلا هو حلال . وإنما هو ملزم في الظاهر . فإن طابق في نفس الأمر فذاك . وإلا فللحاكم أجره . وعلى المحتال وزره . ولهذا قال تعالى في آخر الآية : { وأنتم تعلمون } أي : تعلمون بطلان ما تدّعونه وتروجونه في كلامكم . قال قتادة : ( اعلم يا بني آدم . . ! أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ، ولا يحق لك باطلا . وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب . واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .


[1115]:[49/ الحجرات/ 11] ونصها: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون 11}.
[1116]:[4/ النساء/ 29] ونصها: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما 29}.
[1117]:أخرجه الترمذي في: 13 – كتاب الأحكام، 9 – باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
[1118]:أخرجه البخاري في: 46 – كتاب المظالم والغضب، 16 – باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه. ونصه: عن أم سلمة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر. وإنه يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صَدَق، فأقضي له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها). وأخرجه مسلم في: 30 – كتاب الأقضية، حديث 5 (طبعتنا).