غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

188

التفسير : لما كان الصوم منتهياً إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل ، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له . ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقباً بذكر السؤال عن حال الأهلة . قال الإمام الغزالي في الإحياء : المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه ، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان ، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم ، أو الصحة وهي الأدوية في غير وقتها ، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات . وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل . وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه . والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث . والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذاً من مالك كالمعادن ، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي . والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم ، أولاً لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم . والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية ، فهذه أقسام ستة :

الأول : ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين .

الثاني : المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده .

الثالث : المأخوذ قهراً بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق .

الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة .

الخامس : ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره .

السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة . فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله . وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم ، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه { بينكم } أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم . وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال . وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله . والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء ، فإذا استخرجتها قلت دلوتها . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء . ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده . وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو . قوله و{ تدلوا } داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم ، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم . والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة ، فبها يصير المقصود البعيد قريباً ، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال . وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلاً ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين : " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه . فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإنما أقضي له قطعة من نار " فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي . فقال : اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه . " فتوخيا " أي اقصدا الحق فميا تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا : { وأنتم تعلمون } أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق .

/خ189