معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ} (58)

قوله تعالى : { وإما تخافن } أي : تعلمن يا محمد .

قوله تعالى : { من قوم } ، معاهدين .

قوله تعالى : { خيانةً } ، نقض عهد بما يظهر لكم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير .

قوله تعالى : { فانبذ إليهم } ، فاطرح إليهم عهدهم .

قوله تعالى : { على سواء } ، يقول : أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم .

قوله تعالى : { إن الله لا يحب الخائنين } . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي ، أنا أبو سليمان الخطابي ، أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ، ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، ثنا حفص بن عمر النمري ، ثنا شعبة ، عن أبي الفيض ، عن سليم بن عامر ، عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس وهو يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاء لا غدر ، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي ألدها ، و ينبذ إليهم عهدهم على سواء ، فرجع معاوية رضي الله عنه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ} (58)

أي : وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة ، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة .

{ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ْ } عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم . { عَلَى سَوَاءٍ ْ } أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك .

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ } بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة .

ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة{[352]}  منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : { عَلَى سَوَاءٍ ْ } وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم .

ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته .


[352]:- في ب: المحقة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ} (58)

عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاصّ بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة ، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم ، فأمَره الله أن يردّ إليهم عهدهم ، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم ، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة .

والخوف توقع ضر من شيء ، وهو الخوف الحقّ المحمود . وأمّا تخيل الضرّ بدون أمارة فليس من الخوف وإنّما هو الهَوس والتوهّم . وخوف الخيانة ظهور بوارقها . وبلوغُ إضمارهم إيّاها ، بما يتّصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسّس أحوالهم كقوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وقوله : { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } [ النساء : 3 ] .

وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } في سورة [ البقرة : 229 ] .

وقوم } نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم ، أي كلّ قوم تخاف منهم خيانة .

والخيانة : ضد الأمانة ، وهي هنا : نقض العهد ، لأنّ الوفاء من الأمانة . وقد تقدّم معنى الخيانة عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } في هذه السورة [ 27 ] .

والنبذ : الطرح وإلقاء الشيء . وقد مضى عند قوله تعالى : { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } في سورة [ البقرة : 100 ] .

وإنّما رتّب نبذ العهد على خوف الخيانة ، دون وقوعها ، لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون لأنّه إذا تريَّث وُلاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر ، أو للتورّط في غفلة وضياع مصلحة ، ولا تُدار سياسة الأمّة بما يدار به القضاء في الحقوق ، لأنّ الحقوق إذا فاتت كانت بليّتها على واحد ، وأمكن تدارك فائتها . ومصالح الأمّة إذا فاتت تمكّن منها عدوّها ، فلذلك علّق نبذ العهد بتوقّع خيانة المعاهدين من الأعداء ، ومن أمثال العرب : خُذ اللص قبل يَأخُذَك ، أي وقد علمت أنّه لص .

{ وعلى سواء } صفة لمصدر محذوف ، أي نبذاً على سواء ، أو حال من الضمير في ( انبذ ) أي حالة كونك على سواء .

و { على } فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأنّ مدخولها ممّا شأنه أن يعتلى عليه . و { سواء } وصف بمعنى مستو ، كما تقدم في قوله تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم } في سورة [ البقرة : 6 ] . وإنما يصلح للاستواء مع معنى ( على ) الطريق ، فعلم أن سواء } وصف لموصوف محذوف يدلّ عليه وصفه ، كما في قوله تعالى : { على ذات ألواح } [ القمر : 13 ] ، أي سفينة ذات ألواح . وقوله النابغة :

كما لقيت ذاتُ الصَّفا من حليفها

أي الحية ذات الصفا .

ووصف النبذ أو النابذ بأنّه على سواء ، تمثيل بحال الماشي على طريق جادّة لا التواء فيها ، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } [ الأنبياء : 109 ] وهذا كما يقال ، في ضدّه : هو يتبعُ بنيات الطريق ، أي يراوغ ويخاتل .

والمعنى : فانبذ إليهم نبذاً واضحاً علناً مكشوفاً .

ومفَعول ( انبذ ) محذوف بقرينة ما تقدّم من قوله : { ثم ينقضون عهدهم } [ الأنفال : 56 ] وقوله : { وإما تخافنّ من قوم خيانة } أي انبذ عهدهم .

وعُدّي « انبِذْ » ب ( إلى ) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم ، وقد فهم من ذلك لا يستمرّ على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنّه لا يخونهم لأنّ أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنّه لا يخونهم .

وجملة : { إن الله لا يحب الخائنين } تذييل لما اقتضته جملة : { وإما تخافن من قوم خيانة } إلخ تصريحاً واستلزاماً . والمعنى : لأنّ الله لا يحبّهم ، لأنّهم متّصفون بالخيانة فلا تستمرَّ على عهدهم فتكون معاهداً لمن لا يحبّهم الله ؛ ولأنّ الله لا يحبّ أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما } في سورة [ النساء : 107 ] . وذكر القرطبي عن النحّاس أنّه قال : هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه .

قلت : وموقع ( إنّ ) فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر ، وتقدّم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز .