قوله تعالى : { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار } أي : مكركم بنا في الليل والنهار ، والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام ، كما قال الشاعر :
ونمت وما ليل المطي بنائم *** . . .
وقيل : ( مكر الليل والنهار ) هو طول السلامة وطول الأمل فيهما ، كقوله تعالى : { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } { إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا } وأظهروا { الندامة } وقيل : أخفوا ، وهو من الأضداد ، { لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } في النار الأتباع والمتبوعين جميعاً { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } من الكفر والمعاصي في الدنيا .
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } أي : بل الذي دهانا منكم ، ووصل إلينا من إضلالكم ، ما دبرتموه من المكر ، في الليل والنهار ، إذ تُحَسِّنون لنا الكفر ، وتدعوننا إليه ، وتقولون : إنه الحق ، وتقدحون في الحق وتهجنونه ، وتزعمون أنه الباطل ، فما زال مكركم بنا ، وكيدكم إيانا ، حتى أغويتمونا وفتنتمونا .
فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إلا تبري بعضهم من بعض ، والندامة العظيمة ، ولهذا قال : { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي : زال عنهم ذلك الاحتجاج الذي احتج به بعضهم على بعض لينجو من العذاب ، وعلم أنه ظالم مستحق له ، فندم كل منهم غاية الندم ، وتمنى أن لو كان على الحق ، [ وأنه ] ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب ، سرا في أنفسهم ، لخوفهم من الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم . وفي بعض مواقف القيامة ، وعند دخولهم النار ، يظهرون ذلك الندم جهرا .
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } الآيات .
{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }
{ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه كما قال تعالى { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } الآيات .
{ هَلْ يُجْزَوْنَ } في هذا العذاب والنكال ، وتلك الأغلال الثقال { إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من الكفر والفسوق والعصيان .
هذه مراجعة من الأتباع للرؤساء حين قالو لهم : إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار «وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما » ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام ، وهذه الإضافة كما قالوا «ليل نائم ونهار صائم » ، وأنشد سيبويه
* فنام ليلي وتجلى همي *{[9665]}
وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ قتادة بن دعامة «بل مكرٌ الليلَ والنهارَ » بتنوين «مكرٌ » ونصب «الليلَ والنهارَ » على الظرف ، وقرأ سعيد بن جبير «بل مكَرّ » بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى «الليل والنهار » وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله ، و «الند » المثيل والشبيه ، والضمير في قوله { أسروا } عام جميع ما تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين ، { أسروا } معناه اعتقدوها في نفوسهم ، ومعتقدات النفس كلها سر لا يعقل غير ذلك ، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة ، وقال بعض الناس { أسروا } معناه أظهروا وهي من الأضداد .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة ، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد ، وقوله تعالى : { لما رأوا العذاب } أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين .
{ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله ونجعل له أندادا } .
لم تَجر حكاية هذا القول على طريقة حكاية المقاولات التي تحكى بدون عطف على حسن الاستعمال في حكاية المقاولات كما استقريناه من استعمال الكتاب المجيد وقدمناه في قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] الآية ، فجِيء بحرف العطف في حكاية هذه المقالة مع أن المستضعفين جاوبوا بها قول الذين استكبروا { أنحن صددناكم } [ سبأ : 32 ] الآية لنكتة دقيقة ، وهي التنبيه على أن مقالة المستضعفين هذه هي في المعنى تكملة لمقالتهم المحكية بقوله : { يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } [ سبأ : 31 ] تنبيهاً على أن مقالتهم تلقَّفها الذين استكبروا فابتدروها بالجواب للوجه الذي ذكرناه هنالك بحيث لو انتظروا تمام كلامهم وأبلعوهم ريقَهم لحصل ما فيه إبطال كلامهم ولكنهم قاطعوا كلامهم من فرط الجَزع أن يؤاخذوا بما يقوله المستضعفون .
وحكي قولهم هذا بفعل الماضي لمزاوجة كلام الذين استكبروا لأن قول الذين استضعفوا هذا بعد أن كان تكملة لقولهم الذي قاطعه المستكبرون ، انقلبَ جواباً عن تبرُّؤ المستكبِرين من أن يكونوا صدُّوا المستضعَفين عن الهدى ، فصار لقول المستضعفين موقعان يقتضي أحد الموقعين عطفه بالواو ، ويقتضي الموقع الآخر قرنه بحرف { بل } وبزيادة { مكر الليل والنهار } . وأصل الكلام : يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين إذ تأمروننا بالليل والنهار أن نكفر بالله الخ . فلما قاطعه المستكبرون بكلامهم أقحم في كلام المستضعفين حرف { بل } إبطالاً لقول المستكبرين { بل كنتم مجرمين } [ سبأ : 32 ] . وبذلك أفاد تكملةَ الكلام السابق والجواب عن تبرؤ المستكبرين ، ولو لم يعطف بالواو لما أفاد إلا أنه جواب عن كلام المستكبِرين فقط ، وهذا من أبدع الإِيجاز .
و { بل } للإِضراب الإِبطالي أيضاً إبطالاً لمقتضَى القصر في قولهم : { أنحن صددناكم عن الهدى } [ سبأ : 32 ] فإنه واقع في حيّز نفي لأن الاستفهام الإِنكاري له معنى النفي .
و { مكر الليل والنهار } من الإِضافة على معنى ( في ) . وهنالك مضاف إليه ومجرور محذوفان دل عليهما السياق ، أي مكركم بنا .
وارتفع { مكر } على الابتداء . والخبر محذوف دل عليه مقابلة هذا الكلام بكلام المستكبرين إذ هو جواب عنه . فالتقدير : بل مكركم صَدَّنا ، فيفيد القصر ، أي ما صدَّنا إلاّ مكركم ، وهو نقض تام لقولهم : { أنحن صددناكم عن الهدى } [ سبأ : 32 ] وقولِهم : { بل كنتم مجرمين } [ سبأ : 32 ] .
والمكر : الاحتيال بإظهار الماكر فعل ما ليس بفاعله ليَغُرّ المحتال عليه ، وتقدم في قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في آل عمران ( 54 ) .
وإطلاق المكر على تسويلهم لهم البقاء على الشرك ، باعتبار أنهم يموهون عليهم ويوهمونهم أشياء كقولهم : إنه دين آبائكم وكيف تأمنون غضب الآلهة عليكم إذا تركتم دينكم ونحو ذلك . والاحتيال لا يقتضي أن المحتَال غيرُ مستحسن الفعل الذي يحتال لتحصيله .
والمعنى : ملازمتهم المكر ليلاً ونهاراً ، وهو كناية عن دوام الإِلحاح عليهم في التمسك بالشرك . و{ إذ تأمروننا } ظرف لما في { مكر الليل والنهار } من معنى ( صدّنا ) أي حين تأمروننا أن نكفر بالله .
والأنداد : جمع نِدّ ، وهو المماثل ، أي نجعل لله أمثالاً في الإِلهية .
وهذا تطاولٌ من المستضعفين على مستكبريهم لما رأوا قلة غنائهم عنهم واحتقروهم حين علموا كذبهم وبهتانهم .
وقد حكى نظير ذلك في قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } الآيتين في سورة البقرة ( 166 ) .
{ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رأوا العذاب } .
يجوز أن يكون عطفاً على جملة { يرجع بعضهم إلى بعض القول } [ سبأ : 31 ] فتكون حالاً . ويجوز أن تعطف على جملة { إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } [ سبأ : 31 ] .
وضمير الجمع عائد إلى جميع المذكورين قبلُ وهم الذين استضعفوا والذين استكبروا . والمعنى : أنهم كشف لهم عن العذاب المعدّ لهم ، وذلك عقب المحاورة التي جرت بينهم ، فعلموا أن ذلك الترامي الواقع بينهم لم يُغن عن أحد من الفريقين شيئاً ، فحينئذٍ أيقنوا بالخيبة وندِموا على ما فات منهم في الحياة الدنيا وأسرُّوا الندامة في أنفسهم ، وكأنهم أسَرُّوا الندامة استبقاء للطمع في صرف ذلك عنهم أو اتقاء للفضيحة بين أهل الموقف ، وقد أعلنوا بها من بعدُ كما في قوله تعالى : { قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } في سورة الأنعام ( 31 ) ، وقوله : { لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } في سورة الزمر ( 58 ) .
وذكر الزمخشري وابن عطية : أن من المفسرين مَن فسّر أسَرّوا } هنا بمعنى أظهروا ، وزعم أن ( أسرّ ) مشترك بين ضدين . فأما الزمخشري فسلمه ولم يتعقبه وقد فسر الزوزني الإِسرار بالمعنيين في قول امرىء القيس :
تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليّ حِراصاً لو يُسِرّون مقتلي
وأما ابن عطية فأنكره ، وقال : « ولم يثبت قط في اللغة أن ( أسرّ ) من الأضداد » . قلت : وفيه نظر . وقد عد هذه الكلمة في الأضداد كثير من أهل اللغة وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق :
ولما رأى الحجاجَ جرَّد سيفه *** أسرّ الحَروريُّ الذي كان أضمرا . . . وفي كتاب « الأضداد » لأبي الطيب الحلبي قال أبو حاتم : ولا أثق بقول أبي عبيدة في القرآن ولا بقول الفرزدق والفرزدق كثير التخليط في شعره . وذكر أبو الطيب عن التَّوزي أن غير أبي عبيدة أنشد بيت الفرزدق والذي جرَّ على تفسير « أسرّوا » بمعنى أظهروا هنا هو ما يقتضي إعلانهم بالندامة من قولهم : { لولا أنتم لكنا مؤمنين } [ سبأ : 31 ] . وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } [ الفرقان : 27 ] الآية .
والندامة : التحسُّر من عمل فات تداركه . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { فأصبح من النادمين } في سورة المائدة ( 31 ) .
{ وَجَعَلْنَا الأغلال فى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانوا يعملون } .
عطف على جملة { إذ الظالمون موقوفون } [ سبأ : 31 ] .
والتقدير : ولو ترى إذ جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . وجواب ( لو ) المحذوفُ جواب للشرطين .
و { الأغلال } : جمع غُلّ بضم الغين ، وهو دائرة من حديد أو جلد على سعة الرقبة توضع في رقبة المأسور ونحوه ويشد إليها بسلسلة أو سير من جلد أو حبل ، وتقدم في أول سورة الرعد . وجعل الأغلال في الأعناق شعار على أنهم يساقون إلى ما يحاولون الفرار والانفلات منه . وتقدم عند قوله تعالى : { وأولئك الأغلال في أعناقهم } في الرعد ( 5 ) . والذين كفروا } هم هؤلاء الذين جرت عليهم الضمائر المتقدمة فالإِتيان بالاسم الظاهر وكونِه موصولاً للإِيماء إلى أن ذلك جزاء الكفر ، ولذلك عقب بجملة { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كأن سائلاً استعظم هذا العذاب وهو تعريض بهم .
والاستفهام ب { هل } مستعمل في الإِنكار باعتبار ما يعقبه من الاستثناء ، فتقدير المعنى : هل جُزوا بغير ما كانوا يعملون ، والاستثناء مفرّغ .
و { ما كانوا يعملون } هو المفعول الثاني لفعل { يجزون } لأن ( جَزى ) يتعدّى إلى مفعول ثان بنفسه لأنه من باب أعطى ، كما يتعدى إليه بالباء على تضمينه معنى : عَوَّضه .
وجعل جزاؤهم ما كانوا يعملون على معنى التشبيه البليغ ، أي مثل ما كانوا يعملون ، وهذه المماثلة كناية عن المعادلة فيما يجاوزونه بمساواة الجزاء للأعمال التي جوزوا عليها حتى كأنه نفسها كقوله تعالى : { جزاء وفاقاً } [ النبأ : 26 ] .
واعلم أن كونه مماثلاً في المقدار أمر لا يعلمه إلا مُقَدِّرُ الحقائق والنيات ، وأما كونه { وفاقاً } في النوع فلأن وضع الأغلال في الأعناق منع من حرية التصرف في أنفسهم فناسب نوعه أن يكون جزاء على ما عبَّدوا به أنفسهم لأصنامهم كما قال تعالى : { أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] وما تقبلوه من استعباد زعمائهم وكبرائهم إياهم قال تعالى : { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] .
ومن غُرَر المسائل أن الشيخ ابن عرفة لما كان عرض عليه في درس التفسير عند قوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] فسأله بعض الحاضرين : هل يستقيم أن نأخذ من هذه الآية ما يؤيد فعل الأمراء أصلحهم الله من الإِتيان بالمحاربين ونحوهم مغلولين من أعناقهم مع قول مالك رحمه الله بجواز القياس في العقوبات على فعل الله تعالى ( في حد الفاحشة ) فأجابه الشيخ بأن لا دلالة فيها لأن مالكاً إنما أجاز القياس على فعل الله في الدنيا ، وهذا من تصرفات الله في الآخرة فلا بُدَّ لِجوازه من دليل .