فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (33)

{ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا } ردّاً لما أجابوا به عليهم ، ودفعاً لما نسبوه إليهم من صدّهم لأنفسهم { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } أصل المكر في كلام العرب : الخديعة والحيلة ، يقال : مكر به إذا خدعه واحتال عليه . والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار ، فحذف المضاف إليه ، وأقيم الظرف مقامه اتساعاً . وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار . قال النحاس : المعنى والله أعلم ، بل مكركم في الليل والنهار ، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا . وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار ، ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرّر في علم المعاني . قال المبرّد كما تقول العرب : نهاره صائم ، وليله قائم ، وأنشد قول جرير :

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى *** ونمت وما ليل المطيّ بنائم

وأنشد سيبويه :

* قيام ليلي وتجلي همي *

وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر برفع { مكر } منوّناً ، ونصب { الليل والنهار } ، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو رزين بفتح الكاف ، وتشديد الراء مضافاً بمعنى : الكرور ، من كرّ يكرّ إذا جاء وذهب ، وارتفاع { مكر } على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره محذوف ، أي : مكر الليل والنهار صدّنا ، أو على أنه فاعل لفعل محذوف ، أي صدّنا مكر الليل والنهار ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدّم عن الأخفش .

وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير ، ولكنه نصب مكر على المصدرية ، أي بل تكرّرت الإغواء مكرًّا دائماً لا تفترون عنه ، وانتصاب { إِذْ تَأْمُرُونَنَا } على أنه ظرف للمكر ، أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا { أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أي أشباهاً وأمثالاً . قال المبرد : يقال ندّ فلان فلان ، أي مثله ، وأنشد :

أتيما تجعلون إليّ ندًّا *** وما تيم بذي حسب نديد

والضمير في قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } راجع إلى الفريقين : أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر ، وأخفوها عن غيرهم ، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة . وقيل : المراد بأسرّوا هنا أظهروا ؛ لأنه من الأضداد يكون ، تارة بمعنى الإخفاء ، وتارة بمعنى الإظهار ، ومنه قول امرؤ القيس :

تجاوزت أحراساً وأهوال معشر *** عليّ حراص لو يسرون مقتلي

وقيل : معنى { أسروا الندامة } تبينت الندامة في أسرّة وجوههم { وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } الأغلال جمل غلّ ، يقال : في رقبته غلّ من حديد ، أي جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار ، والمراد بالذين كفروا : هم المذكورون سابقاً ، والإظهار لمزيد الذمّ ، أو للكفار على العموم ، فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إلاّ جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله ، أو إلاّ بما كانوا يعملون على حذف الخافض .

/خ33