ثم قال { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله } لما قال المستكبرون : إنا صددنا ، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار{[44674]} . واعلم أنه يجوز رفع «مكر » من ثلاثة أوجه :
أحدها : الفاعلية{[44675]} تقديره : بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذين الوقتين .
الثاني : أن يكون مبتدأ محذوف{[44676]} أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا .
الثالث : العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ . وهو المتقدم في التفسير{[44677]} ، وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد{[44678]} المجازي كقولهم : لَيْلٌ مَاكِر ، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر :
4140 - . . . . . . . . . . . . . . . وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ{[44679]}
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه{[44680]} ، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه{[44681]} وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال : إن الإضافة بمعنى «في » أي في الليل{[44682]} ، لأن ذلك لم يثبت في ( غير ){[44683]} محل النزاع{[44684]} ، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل{[44685]} فيهما كقوله تعالى : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد : 16 ] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعده ، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين : «مَكْر » وانتصاب الليل والنهار ظرفين{[44686]} . وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد{[44687]} الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار ، واختلافهما ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي{[44688]} - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره- كذلك إلا أنه ينصب الراء{[44689]} ، وفيها أوجه :
أظهرها : ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال : «بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه »{[44690]} .
الثاني : النصب على الظرف بإضمار فعل أي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار{[44691]} أي دائماً .
الثالث : أنه منصوب «بتأمُرُونَنَا » قاله أبو الفضل الرازي{[44692]} . وهو غلط ؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله{[44693]} إلا في مسألة واحدة وهي «غير » إذَا كانت بمعنى «لا » كقوله :
4141- إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ . . . عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ{[44694]}
وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة{[44695]} ، وجاء قوله : { قَالَ الذين استكبروا } بغير عاطف ؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله : { وَقَالَ الذين استضعفوا } فإنه لم يكن جواباً لعطف ، والضمير في «وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ » للجميع للأتباع والمتبوعين .
لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم «إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ » أي ننكره «ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً » هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به .
قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين : «وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا » بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وأما الاستقبال فعلى الأصل .
قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل : معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول ، وقوله : { وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار ، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي في الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.