اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (33)

ثم قال { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله } لما قال المستكبرون : إنا صددنا ، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار{[44674]} . واعلم أنه يجوز رفع «مكر » من ثلاثة أوجه :

أحدها : الفاعلية{[44675]} تقديره : بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذين الوقتين .

الثاني : أن يكون مبتدأ محذوف{[44676]} أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا .

الثالث : العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ . وهو المتقدم في التفسير{[44677]} ، وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد{[44678]} المجازي كقولهم : لَيْلٌ مَاكِر ، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر :

4140 - . . . . . . . . . . . . . . . وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ{[44679]}

فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه{[44680]} ، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه{[44681]} وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال : إن الإضافة بمعنى «في » أي في الليل{[44682]} ، لأن ذلك لم يثبت في ( غير ){[44683]} محل النزاع{[44684]} ، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل{[44685]} فيهما كقوله تعالى : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد : 16 ] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعده ، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين : «مَكْر » وانتصاب الليل والنهار ظرفين{[44686]} . وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد{[44687]} الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار ، واختلافهما ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي{[44688]} - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره- كذلك إلا أنه ينصب الراء{[44689]} ، وفيها أوجه :

أظهرها : ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال : «بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه »{[44690]} .

الثاني : النصب على الظرف بإضمار فعل أي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار{[44691]} أي دائماً .

الثالث : أنه منصوب «بتأمُرُونَنَا » قاله أبو الفضل الرازي{[44692]} . وهو غلط ؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله{[44693]} إلا في مسألة واحدة وهي «غير » إذَا كانت بمعنى «لا » كقوله :

4141- إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ . . . عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ{[44694]}

وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة{[44695]} ، وجاء قوله : { قَالَ الذين استكبروا } بغير عاطف ؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله : { وَقَالَ الذين استضعفوا } فإنه لم يكن جواباً لعطف ، والضمير في «وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ » للجميع للأتباع والمتبوعين .

فصل

لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم «إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ » أي ننكره «ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً » هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به .

فصل

قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين : «وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا » بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وأما الاستقبال فعلى الأصل .

قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل : معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول ، وقوله : { وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار ، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي في الدنيا .


[44674]:تفسير الرازي المرجع السابق.
[44675]:قاله ابن جني في المحتسب 2/193 وأبو البقاء في التبيان 1069 وأبو حيان في البحر 7/283.
[44676]:المحتسب السابق والبحر والدر 4/446.
[44677]:قاله أبو الحسن الأخفش في المعاني 2/663 وأبو حيان في البحر 7/283 وجعله النحاس مبتدأ ذا خبر محذوف انظر: إعراب النحاس 3/349.
[44678]:قاله الأخفش في المعاني 2/663 والفراء في المعاني 2/363 والنحاس في الإعراب 3/349 والزمخشري في الكشاف 3/91.
[44679]:هذا عجز بيت من الطويل لجرير صدره: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى .......................... والشاهد: "بنائم" حيث أسنده إلى الليل إسنادا مجازيا وذلك للاتساع في ذلك كما أوضح أعلى وانظر: المقتضب 3/105 والمحتسب 2/184 وإعراب النحاس 3/349 ومجمع البيان 7/613 والطبري 22/67 والإنصاف 243 والنقائض 753 وفتح القدير 4/328 والكتاب 1/160 وديوانه 553 دار صادر. وأم غيلان فيه هي عتبة بنت جرير وانظر كذلك مجاز القرآن 1/279 وزاد المسير 6/258.
[44680]:الفاعل لأنه هو الفاعل المجازي وهذا تأكيد لآراء السابقين. وانظر مراجعهم السابقة.
[44681]:وهو رأي أبي القاسم الزمخشري قال: "ومعنى مكر الليل والنهار مكركم في الليل والنهار فاتسع في الليل وهو الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي" انظر: الكشاف 3/291.
[44682]:قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: "معناه بل مكركم في الليل والنهار". وتبعه تلميذه النحاس في الإعراب. انظر: معاني الزجاج 4/254 وإعراب النحاس 3/349.
[44683]:سقط من "ب".
[44684]:نقله في الدر المصون 4/446.
[44685]:نقله البغوي في معالم التنزيل 5/293.
[44686]:قاله ابن جني في المحتسب 2/193 و194 وانظر: الكشاف 3/291 والبحر المحيط 7/283 وزاد المسير 6/458.
[44687]:المحتسب 2/193 و 194 وابن خالويه 122 والبحر 7/283 والقرطبي 14/303.
[44688]:لم أعثر على ترجمة له غير ما هو أعلى من تصحيح المصاحف كما في المحتسب.
[44689]:المحتسب والبحر والمختصر والقرطبي المراجع السابقة.
[44690]:الكشاف 3/291.
[44691]:وهو كلام ابن جني في محتسبه انظر: المحتسب 2/194 والدر المصون 4/447.
[44692]:نقله عنه أبو حيان في بحره وهو أبو الفضل صاحب اللوامح انظر: البحر 7/283.
[44693]:نقله أبو حيان في المرجع السابق قال: لأن ما بعد "إذ" لا فيما قبلها.
[44694]:من بحر البسيط لأبي زبيد الطائي والتنائي: البعد، و "مودة" منصوب على نزع الخافض، ومنكر مجحود هو معنى المكفور. وهو يتحدث عن شخص معين بالنعمة والفضل عليه. قد تقدم.
[44695]:وانظر هذا كله في تفسير الفخر الرازي مع تغيير طفيف في عبارته.