قوله تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } فكان من إيمانهم إذا سئلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، وإذا قيل لهم : من ينزل المطر ؟ قالوا : الله ، ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون . وعن ابن عباس أنه قال : إنها نزلت في تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون في تلبيتهم ، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وقال عطاء : هذا في الدعاء ، وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ، كما قال الله تعالى : { وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين } [ يونس-22 ] وقال تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [ العنكبوت-65 ] ، وغير ذلك من الآيات .
ومع هذا إن وجد منهم بعض الإيمان فلا { يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى ، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور ، فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده ، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحال لم يبق عليهم إلا أن يحل بهم العذاب ، ويفجأهم العقاب وهم آمنون ، ولهذا قال : { أَفَأَمِنُوا }
وقوله : { وما يؤمن أكثرهم } الآية ، قال ابن عباس : هي في أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث قالوا عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله . وقال عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد هي في كفار العرب ، وإيمانهم هو إقرارهم بالخالق والرازق والمميت ، فسماه إيماناً وإن أعقبه إشراكهم بالأوثان والأصنام -فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها . وقيل : هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطواف والتلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك ، يقول له : قط قط ، أي قف هنا ولا تزد : إلا شريك هو لك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما يؤمن أكثرهم}، أي أكثر أهل مكة، {بالله إلا وهم مشركون}، في إيمانهم، فإذا سئلوا: من خلقهم وخلق الأشياء كلها؟ قالوا: الله، وهم في ذلك يعبدون الأصنام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عزّ وجلّ صفتهم بقوله:"وكأيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السّمَواتِ والأرْضِ يَمْرّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ" بالله، أنه خالقه ورازقه وخالق كلّ شيء، إلا وهم به مشركون في عبادتهم الأوثان والأصنام، واتخاذهم من دونه أربابا، وزعمهم أنه له ولدا، تعالى الله عما يقولون...
عن ابن عباس: "وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ..."، قال: من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء، ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: إشراك في الاعتقاد (وما يؤمن أكثرهم بالله) بأنه الإله، وهم يشركون الأصنام والأوثان في التسمية، حين سموها آلهة كقوله تعالى عز وجل: (قل لو كان معه آلهة) إلا الله (كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) [الإسراء: 42].
والثاني: إشراك في الفعل: أي (وما يؤمن أكثرهم بالله) عز وجل إلا وهم عبدوا غيره من الأصنام والأوثان أو يكونوا (وما يؤمن أكثرهم بالله) تعالى بلسانهم (إلا وهم مشركون) بقلوبهم، أو يقول: (وما يؤمن أكثرهم بالله) في النعمة أنها من الله سبحانه وتعالى (إلا وهم مشركون) في الشكر له تعالى.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الشّرْكُ الجَليُّ أن يتَّخِذَ من دونه -سبحانه- معبوداً، والشِّرْكُ الخفِيُّ أن يتخذ بقلبه عند حوائجه من دونه -سبحانه- مقصوداً.
ويقال شِرْكُ العارفين أن يتخذوا من دونه مشهوداً، أو يطالعوا سواه موجوداً.
ويقال مِنَ الشِّركِ الخفيِّ الإحالةُ على الأشكال في تجنيس الأحوال، والإخلاد إلى الاختيار والاحتيال عند تزاحم الأشغال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ربما قيل: كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أن الله فاعل تلك الآيات، بين أن إشراكهم مسقط لذلك، فقال: {وما يؤمن أكثرهم} أي الناس {بالله} أي الذي لا شيء إلا وهو داع إلى الإيمان به، لأنه المختص بصفات الكمال {إلا وهم مشركون} به مَن لا يقدر على شيء فضلاً عن أن يأتي بآية، كانوا يقرون بأن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره، وكذا المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفران، وكذا أهل الكتابين يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره، فعلم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل، وهو محض تقليد لمن زين له سوء عمله فرآه حسناً، لما سبق فيه من علم الله أنه لا صلاحية له فأفسده بما شابهه به من الشرك، والآية صالحة لإرادة الشرك الخفي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل" وهو شرك الأسباب التي قدر الله وصول ما يصل إلى العبد بواسطتها، فقل من يتخطى من الأسباب إلى مسببها! قال الرازي في اللوامع: وقال الإمام محمد بن علي الترمذي: إنما هو شك وشرك فالشك ضيق الصدر عند النوائب، ومنه ثوب مشكوك، والشرك تعلق القلب بالشيء، وإنما يوسع الصدر نور اليقين وإنما يتخلص من الشرك بنور التوحيد، فعند هذا يتولاه الله تعالى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك -في صورة من صوره- إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولا بأول كل خالجة شيطانية، وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف، لتكون كلها لله، خالصة له دون سواه. والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).. مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص. مشركون سببا من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء. مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه. مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله. مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله.. لذلك يقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل"... فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان. وهناك الشرك الواضح الظاهر، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة. الدينونة في شرع يتحاكم إليه -وهو نص في الشرك لا يجادل عليه- والدينونة في تقليد من التقاليد كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله. والدينونة في زي من الأزياء يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر.. والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعا ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، وتركا للأمر الواضح الصادر من رب العبيد.. إنه عندئذ لا يكون ذنبا، ولكنه يكون شركا. لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله.. وهو من هذه الناحية أمر خطير. ومن ثم يقول الله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).. فتنطبق على من كان يواجههم رسول الله في الجزيرة، وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... المراد ب {أكثر الناس} أهل الشرك من العرب. وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية. والاستثناء من عموم الأحوال، فجملة {وهم مشركون} حال من {أكثرهم}. والمقصود من هذا تشنيع حالهم. والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم. وإسناد هذا الحكم إلى {أكثرهم} باعتبار أكثر أحْوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك. وليس المراد أن بعضاً منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الإيمان بالتوحيد يخضع لحسابات دقيقة {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ربّما يؤمن هؤلاء، ولكنه الإيمان الذي يمثل حالةً فكرية، لا تلامس الشعور، أو حالةً نظريةً لا تتحرك في الواقع، أو حالة عاطفية لا تؤكدها الإرادة، ولهذا فإن الإيمان عندهم لا يتحول إلى موقف يحدد موقعهم من كل الحالات المحيطة بهم، بل هو مجرّد شبح في الذاكرة وصورةٍ في الذهن. أما الواقع فإنه يحتضن الكثير من أوضاع الشرك في الطاعة، عندما يعصون الله، ويطيعون غيره، رغبةً أو رهبةً، أو حينما يستغرقون في تعظيم ذات بشريّة، حتى يصلوا بها إلى مستوى التأليه، أو ما يقرب منها، ويتوجهوا إليها في ابتهالاتهم كما يتوجهون إلى الله، وينسبوا إليها الأفعال التي لا تنسب إلى الله...