فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ} (106)

{ وما يؤمن } أي ما يصدق { أكثرهم } أي أكثر الناس { بالله } من كونه الخالق الرازق المحيي المميت { إلا وهم مشركون } بالله يعبدون معه غيره .

أقول إن إيضاح ما تضمنه هذه الآيات يتوقف على إيضاح ما ذكره أهل التفاسير المعتبرة وينحصر ذلك في وجوه اثني عشر ، وينضم إلى ذلك ما ذكرته أنا فيكون الوجوه ثلاثة عشر .

الوجه الأول : أن أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره من أصنامهم وطواغيتهم ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ، ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله كما قالوا { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله . والمعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما يفعله كثير من عباد القبور .

فهذا الإقرار الصادر منهم بأن الله عز وجل خالقهم ورازقهم هو يصدق عليه أنه إيمان بالمعنى الأعم أي تصديق لا بالمعنى الأخص أعني إيمان المؤمنين ، فهذا الإيمان الصادر منهم واقع في حال الشرك فقد آمنوا حال كونهم مشركين وإلى هذا الوجه ذهب جمهور المفسرين ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه هاهنا من تقريره بكونه إيمانا بالمعنى الأعم ولا بد من ذلك حتى يستقيم الكلام ويصدق عليه مسمى الإيمان .

الوجه الثاني : أن المراد بالآية المنافقون لأنهم كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الشرك فما كانوا يؤمنون ظاهرا إلا وهم مشركون باطنا . وروي هذا عن الحسن البصري .

الوجه الثالث : إنهم أهل الكتاب يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره ويقولون المسيح ابن الله وعزير ابن الله ، فهم يؤمنون بما أنزل الله على أنبيائهم حال كونهم مشركين .

الوجه الرابع : أن المقصود بذلك ما كان يقع في تلبية العرب من قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، فقد كانوا في هذه التلبية يؤمنون بالله وهم مشركون . روي نحو ذلك عن ابن عباس .

الوجه الخامس : أن المراد بهذه الآية المراؤون من هذه الأمة لأن الرياء هو الشرك المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل ) {[975]} فالمراؤون آمنوا بالله حال كونهم مشركين بالرياء . وأخرج أحمد في المسند من حديث محمود ابن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال الرياء{[976]} يقول الله يوم القيامة : إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ) .

الوجه السادس : أن المراد بالآية من نسي ربه في الرخاء وذكره عند الشدائد روى ذلك عن عطاء وفيه أنه لا يصدق على ذلك أنه آمن بالله حال كونه مشركا إلا أن يجعل مجرد نسيان الذكر والدعاء عند الرخاء شركا مجازا كأنه بنسيانه وتركه للدعاء قد عبد إلها آخر وهو بعيد ، على أنه لا يمكن اجتماع الأمرين لأنه حال الذكر والدعاء غير متصف بالنسيان وترك الذكر ، وقد تقرر أن الحال قيد في عاملها إلا أن يعتبر بما كان عليه الشيء فإن ذلك أحد العلاقات المصححة للتجوز ، ويدل عليه قوله تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } .

الوجه السابع : أن المراد من أسلم من المشركين فإنه كان مشركا قبل إيمانه حكم بذلك الحاكم في تفسيره وتقريره أنه ما يؤمن أحدهم بالله إلا وقد كان مشركا قبل إيمانه والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله والجواب الجواب .

الوجه الثامن : أن المراد بالشرك هاهنا ما يعرض من الخواطر والأحوال حال الإيمان قاله السيوطي كما حكاه عنه البقاعي وفيه أن هذه الخواطر والأحوال إن كانت مما يصدق عليه الشرك الأكبر أو الأصغر فذاك وإن كانت خارجة عن ذلك فهو فاسد .

الوجه التاسع : إنهم الذين يشبهون الله بخلقه ، رواه الكشاف عن ابن عباس وتقريره أنهم آمنوا بالله حال تشبيههم له بما يكون شركا أو يؤول إلى الشرك .

الوجه العاشر : هو ما تقوله القدرية من إثبات القدرة للعبد حكاه النسفي في مدارك التنزيل . وتقريره أنهم آمنوا بالله حال إثباتهم ما هو مختص به لغيره وهو شرك أو منزل منزلة الشرك .

الوجه الحادي عشر : ما قاله محيي الدين ابن عربي في تفسيره أن أكثر الناس إنما يؤمنون بغير الله ويكفرون بالله دائما ففي بعض الأحيان يشركون الله سبحانه مع ذلك الإله الذي هم مؤمنون به فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حال كونه مشركا وفيه أن ظاهر النظم القرآني أن الإيمان بالله والشرك بتشريك غيره معه لا يكون إلا بتشريكه مع غيره وبين المعنيين فرق .

الوجه الثاني عشر : ذكره ابن كثير في تفسيره ، وهو أن ثمة شركا خفيا لا يشعر به غالب الناس ممن يفعله كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض يزوره فرأى في عضده سيرا فقطعه وانتزعه ثم قال : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمر مرفوعا ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) {[977]} .

وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن الرقى والتمائم والتولة شرك ) {[978]} وفي لفظ لهما ( الطيرة شرك وما منا إلا . ولكن الله يذهبه بالتوكل ) .

وروى أحمد في المسند عن عدي ابن عبد الرحمان قال دخلت على عبد الله ابن حكيم وهو مريض فقيل له لو تعلقت فقال أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تعلق شيئا وكل إليه ) {[979]} ورواه النسائي عن أبي هريرة .

وفي المسند عن عقبة ابن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من علق تميمة فقد أشرك ) {[980]} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ) {[981]} .

وروى أحمد وغيره من حديث غيره ، وفي المسند أيضا من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك قال أن يقول أحدهم : ( اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ) {[982]} .

وأخرج أحمد من حديث أبي موسى قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ثم قالوا له كيف نجتنبه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ قال قولوا : ( اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ) وقد روي من حديث غيره{[983]} .

إذا عرفت ما تضمنته كتب التفسير من الوجوه التي ذكرناها وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه فاعلم أن هذه الأقوال إنما هي اختلاف في سبب النزول وأما النظم القرآني فهو صالح لحمله على كل ما يصدق عليه مسمى السبب كما هو مقرر في مواطنه .

-فيقال مثلا في أهل الشرك أنه ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق الرازق إلا وهو مشرك بالله بما يعبده من الأصنام ويقال فيمن كان واقعا في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمين أنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشرك بذلك الشرك الخفي ، ويقال مثلا في سائر الوجوه بنحو هذا على التقرير الذي قررناه سابقا وهذا يصلح أن يكون وجها مستقلا وهو أوجهها وأرجحها فيما أحسب وإن لم يذكره أحد من المفسرين .

فما قيل من أنه يشكل وجود اتصافهم بالإيمان في حال تلبسهم بالشرك استشكال واقع موقعه ، وسؤال حال محله وجوابه قد ظهر مما سبق فإنه يقال مثلا أن أهل الجاهلية كان إيمانهم المجامع للشرك هو مجرد الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق وهو لا ينافي ما هم عليه من الشرك .

وكذلك يقال أن أهل الإسلام كان شرك من وقع منهم في شيء من الشرك الخفي الأصغر غير مناف لوجوه الإيمان منهم لأن الشرك الأصغر لا يخرج به فاعله عن مسمى الإيمان ولهذا كانت كفارته أن يتعوذ بالله من أن يشرك وأن يقول في الطيرة اللهم لا طير إلا طيرك ولا إله غيرك .

فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقي والشرك الخفي في بعض المؤمنين واجتمع الإيمان بالمعنى الأعم والشرك الحقيقي في أهل الجاهلية ، وكذا يقال في أهل الكتاب أنه اجتمع فيهم الإيمان بما أنزل الله على أنبيائهم والإشراك بجعل بعض المخلوقين أبناء لله عز وجل وهكذا في بقية الوجوه .


[975]:صحيح الجامع الصغير / 3624
[976]:أحمد ابن حنبل 5/428 ـ 429
[977]:صحيح الجامع الصغير / 6080
[978]:صحيح الجامع الصغير / 1628
[979]:ابن كثير 2/ 494
[980]:صحيح الجامع الصغير 6270
[981]:مسلم 2985
[982]:صحيح الجامع الصغير 6140
[983]:أحمد ابن حنبل 4 / 402