محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ} (106)

وقوله تعالى :

[ 106 ] { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 106 } .

{ وما يؤمن أكثرهم } أي : الناس ، أو أهل مكة ، { بالله } أي في إقرارهم بوجوده وخالقيته { إلا وهم مشركون } أي : بعبادتهم لغيره ، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا ، وبقولهم باتخاذه تعالى ولدا . سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .

تنبيه :

كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر ، وهو أن يعبد مع الله غيره ، فإنها تشير إلى ا يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي ، الذي لا يشعر صاحبه به غالبا ومنه قول الحسن في هذه الآية : ذاك المنافق ، يعمل إذا عمل رئاء الناس ، وهو مشرك بعمله . يعني : الشرك في العبادة . فصاحبه ، وإن اعتقد وحدانيته تعالى - ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه ، أو طلب الدنيا ، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق . فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب . وهذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه ابن حبان في ( صحيحه ) : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " . فالرياء كله شرك ، وهو محبط للعبادة ، مبطل ثواب العمل ، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجبا . فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة . قال تعالى{[4953]} : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } ، فمن لم يخلص لله في عبادته ، لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به شيء غير المأمور ، فلا يقبل منه .

وروى مسلم{[4954]} وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه " . وروى الإمام أحمد{[4955]} عن محمود بن لبيد ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ! قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ! " .

ومن الشرك نوع غير مغفور ، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم ، بأن يحب مخلوقا كما يحب الله . فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه{[4956]} : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا . . . } الآية وقال أصحاب هذا الشرك / لآلهتهم ، وقد جمعتهم الجحيم{[4957]} : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسوّيكم برب العالمين } ومعلوم أنهم ما سوّوهم به سبحانه في الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، والملك والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب والتأله ، والخضوع لهم والتذلل . وهذا غاية الجهل والظلم . فكيف يسوى من خلق من التراب ، برب الأرباب ؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ، وكيف يسوى الفقير بالذات ، الضعيف بالذات ، العاجز بالذات ، المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ، بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام ، من لوازم ذاته ؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأي حكم أشد جورا منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، أفاده الشمس ابن القيم في ( الجواب الكافي ) .

قال الحافظ ابن كثير : وثم شرك خفي لا يشعر به غالبا فاعله ، كما روي عن حذيفة : " أنه دخل على مريض ، فرأى في عضده سيرا فقطعه ، ثم قال : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .

وفي الحديث{[4958]} : " من حلف بغير الله فقد أشرك " رواه الترمذي عن ابن عمر وحسّنه .

وفي الحديث الذي رواه أحمد{[4959]} وأبو داود{[4960]} وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرقى والتمائم والتّولة شرك " . ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت : " كان عبد الله إذا جاء من حاجة انتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ؟ قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح ، وعندي عجوز ترقيني ن الحمرة ، فأدخلتها تحت السرير . قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطا ، فقال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه ! فأخذه فقطعه ، ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك . قالت : قلت له : لم تقول هذا ، وقد كانت عيني تفرق ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت ؟ ! فقال : إنما ذاك من الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا رقاها كفّ عنها ، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أذهب الباس ، رب الناس ، اشف أنت الشافي . لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقما " .

وروى الإمام أحمد{[4961]} عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من علق تميمة فقط أشرك ! " .

وأخرج أيضا{[4962]} عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " .

وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان . مع وجود مسمى الشرك ، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به ، بما يتخذه من الشفعاء ، وما يعبده من الأصنام . وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين ، كالرياء مثلا ، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به ، بذلك الشرك الخفي . وعلى هذا ، فالشرك يجامع الإيمان ، فإن الموصوف بهما مما تقدم ، مؤمن فيما آمن به ، ومشرك فيما أشرك به والتسمية في الشريعة لله عزوجل ولرسوله ، فلهما أن يوقعا أي اسم شاءا على أي مسمى شاءا . فكما أن الإيمان في اللغة التصديق ، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات ، واجتناب المعاصي ، / إذا قصد بكل ذلك ، من عمل أو ترك ، وجه الله تعالى ، كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقا ، إلى الشرك في عبادته تعالى ، وفي خصائص ربوبيته .

قال ابن القيم :

حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق ، والتشبه للمخلوق به ، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية ؛ فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليق الدعاء ، والخوف والرجاء ، والتوكل به وحده . فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فضلا عن غيره ، مشبها بمن له الأمر كله ، جل وعلا . فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات ، بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه ، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل ، مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة ، أن يكون له وحده . ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره . فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير ، بمن لا شبيه له ، ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيه وأبطله ، ولشدة قبحه ، وتضمنه غاية الظلم ، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره . مع أنه كتب على نفسه الرحمة . ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين ، لا قوام لها بدونهما : غاية الحب ، مع غاية الذل . هذا تمام العبودية وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين : فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله ، فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع ، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل . ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم ، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى ، إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود . فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به . ومنها التوكل ، فمن توكل / على غيره فقد شبهه به ، ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به . ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا . فمن حلف بغيره فقد شبهه به . هذا في جانب التشبيه . وأما في جانب التشبه به ، فمن تعاظم وتكبر ، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم ، والخضوع ، والرجاء ، وتعليق القلب به ، خوفا ورجاء والتجاء ، واستعانة ، فقد تشبه به ، ونازعه في ربوبيته وإلهيته ، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان ، ويذله غاية الذل .

وفي ( الصحيح ) {[4963]} عنه صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما عذبته " . وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده ، كملك الأملاك ، وحاكم الحكام ، ونحوه .

وفي ( الصحيح ) {[4964]} عنه صلى الله عليه وسلم : " أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله " .

فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم ، الذي لا ينبغي إلا له ، فهو سبحانه ملك الملوك وحده يحكم عليهم كلهم ، ويقضي عليهم ، لا غيره .

وتتمة هذا البحث في ( الجواب الكافي ) لابن القيم ، فانظره .


[4953]:[98 / البينة / 5].
[4954]:أخرجه مسلم في: 53- كتاب الزهد والرقائق، حديث 46 (طبعتنا).
[4955]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة رقم 428 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[4956]:[2 / البقرة / 165].
[4957]:[26 / الشعراء / 97 و 98].
[4958]:أخرجه الترمذي في : 18- كتاب النذور والأيمان، 9- باب حدثنا قتيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر.
[4959]:رواه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة 381 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 3615 (طبعة المعارف).
[4960]:أخرجه أبو داود في : 27- كتاب الطب، 17- باب في تعليق التمائم، حديث رقم 3883.
[4961]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة رقم 156 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[4962]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة رقم 220 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي). والحديث رقم 7045 (طبعة المعارف).
[4963]:أخرجه مسلم في: 45- كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم 136 (طبعتنا).
[4964]:أخرجه البخاري في: 78- كتاب الأدب، 114 – باب أبغض الأسماء إلى الله، حديث رقم 2367، عن أبي هريرة. ومسلم في: 38- كتاب الآداب، حديث رقمي 20 و 21 (طبعتنا).