قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية . الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال الكفار ، فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما يختلفان ، فالغنيمة : ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان عن صلح بغير قتال ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال : { فأن لله خمسه وللرسول } . فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله : { لله } افتتاح كلام على سبيل التبرك ، وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة لله منفرداً ، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل ، وهو قول الحسن ، وقتادة وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد ، والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف ، كم ذكر الله عز وجل .
قوله تعالى : { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال بعضهم : يقسم الخمس على ستة أسهم ، وهو قول أبي العالية ، سهم لله فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، وقال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس لأربعة أصناف . قوله : { ولذي القربى } أراد أن سهماً من الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم ، فقال قوم : جميع قريش . وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصدقة ، وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ، ولا بني نوفل شيئا .
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن ، عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : ( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا ، وشبك بين أصابعه ) .
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم ؟ . فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد ، وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهماً واحداً . قوله : { واليتامى } وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيراً ، و{ المساكين } هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، { وابن السبيل } هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما : أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد الله بن يوسف ، أنا أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا سعدان بن نصر ، ثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهماً له ، وسهمين لفرسه .
وهذا قول أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول ، وعند أبي حنيفة : يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وقفاً على المصالح ، وظاهر الآية لا يفرق بين العقار و المنقول ، ومن قتل مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة له سلبه ) . والسلب : كل ما يكون من المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب . يخصه به من بين سائر الجيش ، ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش . وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة . واختلفوا في النفل من أين يعطى ؟ فقال قوم : من خمس الخمس ، منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب بعضهم : إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل ، وأما الفيء ، وهو ما أصابه المسلمين من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدون ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له ، فهذا كله في فيء . ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله منهم } إلى قوله : { قدير } وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل ، واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده . وللشافعي فيه قولان : أحدهما : للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو . والقول الثاني : أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح ، واختلف أهل العلم في تخميس الفيء ، فذهب الشافعي إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح . وذهب الأكثرون إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم ) .
وأخبرنا أبو سعيد الطاهر ، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } حتى بلغ { عليم حكيم } [ التوبة :60 ] فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } حتى بلغ { وابن السبيل } ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ { للفقراء } والذين جاءوا من بعدهم ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فليأتين الراعي وهو بسر وحمير فنصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه .
قوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } ، قيل : أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني : قوله { يسألونك عن الأنفال }
قوله تعالى : { يوم الفرقان } ، يعني يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل وهو { يوم التقى الجمعان } ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان .
قوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } ، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .
يقول تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ْ } أي : أخذتم من مال الكفار قهرا بحق ، قليلا كان أو كثيرا . { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ْ } أي : وباقيه لكم أيها الغانمون ، لأنه أضاف الغنيمة إليهم ، وأخرج منها خمسها . فدل على أن الباقي لهم ، يقسم على ما قسمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : للراجل سهم ، وللفارس سهمان لفرسه ، وسهم له .
وأما هذا الخمس ، فيقسم خمسة أسهم ، سهم للّه ولرسوله ، يصرف في مصالح المسلمين العامة ، من غير تعيين لمصلحة ، لأن اللّه جعله له ولرسوله ، واللّه ورسوله غنيان عنه ، فعلم أنه لعباد اللّه . فإذا لم يعين اللّه له مصرفا ، دل على أن مصرفه للمصالح العامة .
والخمس الثاني : لذي القربى ، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب . وأضافه اللّه إلى القرابة دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة ، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم ، ذكرهم وأنثاهم .
والخمس الثالث لليتامى ، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم ، حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم ، وقد فقد من يقوم بمصالحهم .
والخمس الرابع للمساكين ، أي : المحتاجين الفقراء من صغار وكبار ، ذكور وإناث .
والخمس الخامس لابن السبيل ، وهو الغريب{[345]} المنقطع به في غير بلده ، [ وبعض المفسرين يقول إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك تبع للمصلحة وهذا هو الأولى ]{[346]} وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان فقال : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ْ } وهو يوم { بدر ْ } الذي فرق اللّه به بين الحق والباطل . وأظهر الحق وأبطل الباطل .
{ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ْ } جمع المسلمين ، وجمع الكافرين ، أي : إن كان إيمانكم باللّه ، وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان ، الذي حصل فيه من الآيات والبراهين ، ما دل على أن ما جاء به هو الحق . { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ْ } لا يغالبه أحد إلا غلبه .
{ واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا . { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط . { فأن لله خُمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه . وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } . وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به . وحكمه بعد ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما . وقيل إلى الإمام . وقيل إلى الأصناف الأربعة . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه :سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية . وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال :يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ) . وقيل : سهم الله لبيت المال . وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . وشبك بين أصابعه " . وقيل بنو هاشم وحدهم . وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء . وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل . وقيل : الخمس كله لهم . والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص . والآية نزلت ببدر . وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة . { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } أي : إن كنتم آمنتم بالله فعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل . { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر . وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة .
موضع «أن » الثانية رفع ، التقدير «فحكمه أن » ، فهي في موضع خبر الابتداء ، والغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي من ذلك قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد طفت في الآفاق حتى*** رضيت من الغنيمة بالإياب{[5351]}
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه*** أنّى توجَّهَ والمحروم محروم{[5352]}
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرهن : «له غنمه وعليه مخرجه »{[5353]} وقوله : «الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة »{[5354]} فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف{[5355]} الخيل والركاب غنيمة ، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً له ، والفيء مأخوذ من فاء إذا رجع وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرض وجزية الجماجم وخمس الغنيمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : والزكوات أيضاً مال على حدته ، أحكامه منفردة دون أحكام هذين ، قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب : الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ صلحاً ، وهذا قريب مما بيناه ، وقال قتادة : الفيء والغنيمة شيء واحد فيهما الخمس ، وهذه الآية التي في الأنفال ناسخة لقوله في سورة الحشر { وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }{[5356]} وذلك أن تلك كانت الحكم أولاً ، ثم أعطى الله أهلها الخمس فقط وجعل الأربعة والأخماس في المقاتلين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف نص العلماء على ضعفه وأن لا وجه له من جهات ، منها أن هذه السورة نزلت قبل سورة الحشر هذه ببدر ، وتلك في بني النضير وقرى عرينة ، ولأن الآيتين متفقتان وحكم الخمس وحكم تلك الآية واحد لأنها نزلت في بني النضير حين جلوا وهربوا ، وأهل فدك حين دعوا إلى صلح ونال المسلمون ما لهم دون إيجاف ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أن في الفيء الخمس ، وأنه كان في قرى عرينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أربعة أخماسها كان للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعها حيث شاء .
وقال أبو عبيدة : هذه الآية ناسخة لقوله في أول السورة { قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر في قول علي بن أبي طالب في البخاري : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم ببدر ، وشارف أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس حينئذ{[5357]} أن غنيمة بدر خمست فإن كان ذلك فسد قول أبي عبيدة ، ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكره علي بن أبي طالب من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد ، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة السويق وغزوة ذي أَمر وغزوة نجران ، ولم يحفظ فيها قتال ، ولكن يمكن أن غنمت غنائم . والله أعلم .
وقوله في هذه الآية { من شيء } ظاهره عام ومعناه الخصوص ، فأما الأرض{[5358]} والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل لحمه من الحيوان ويصح تملكه فليس للإمام في جميع ذلك ما كثر منه وما قل كالخيط والمخيط إلا أن يأخذ الخمس ويقسم الباقي في أهل الجيش ، وأما الأرض فقال فيها مالك : يقسمها الإمام إن رأى ذلك صواباً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ، ولا يقسمها إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عمر بأرض مصر سواد الكوفة .
قال القاضي أبو محمد : لأن فعل عمر ليس بمخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ليست النازلة واحدة بحسب قرائن الوقتين وحاجة الصحابة وقلتهم ، وهذا كله انعكس في زمان عمر ، وأما الرجال ومن شارف البلوغ من الصبيان فالإمام عند مالك وجمهور العلماء مخير فيهم على خمسة أوجه ، منها القتل وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية ، ومنها الفداء وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ولا مكيدة لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه ، ومنها المن وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين ونحو ذلك من القرائن ، ومنها الاسترقاق ، ومنها ضرب الجزية والترك في الذمة ، وأما الطعام والغنم ونحوهما مما يؤكل فهو مباح في بلد العدو يأكله الناس فما بقي كان في المغنم .
قال القاضي أبو محمد : وأما أربعة أخماس ما غنم فيقسمه الإمام على الجيش ، ولا يختص بهذه الآية ذكر القسمة فأنا أختصره هنا ، وأما الخمس فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك رحمه الله : الرأي فيه للإمام يلحقه ببيت الفيء ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه ، كما يعطي منه اليتامى والمساكين وغيرهم ، وإنما ذكر من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه ، قال الزجّاج محتجاً لمالك :
قال الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل }{[5359]} .
وللإمام بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك ، وقالت فرقة : كان الخمس يقسم على ستة أقسام ، قسم لله وهو مردود على فقراء المسلمين أو على بيت الله ، وقسم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقسم لقرابته ، وقسم لسائر من سمي ، حكى القول منذر بن سعيد ورد عليه ، قال أبو العالية الرياحي : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يقبض من خمس الغنيمة قبضة{[5360]} فيجعلها للكعبة فذلك لله ، ثم يقسم الباقي على خمسة ، قسم له وقسم لسائر من سمي . وقال الحسن بن محمد وابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة والشافعي : قوله { فأن لله خمسه } استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده :قد أعتقك الله وأعتقتك ، على جهة التبرك وتفخيم الأمر ، والدنيا كلها لله . وقسم لله وقسم الرسول واحد ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم الخمس على خمسة أقسام كما تقدم . وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه الطبري : الخمس مقسوم على أربعة أقسام ، وسهم الرسول صلة الله عليه وسلم ، لقرابته وليس لله ولا للرسول شيء ، وقالت فرقة : قسم الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد موته مردود على أهل الخمس القرابة وغيرها ، وقالت فرقة : هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة الأخماس ، وقال علي بن أبي طالب : يلي الإمام منهم سهم الله ورسوله ، وقالت فرقة : هو موقوف لشراء العدد وللكراء{[5361]} في سبيل الله ، وقال إبراهيم النخعي وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر فيه ، وقال أصحاب الرأي : الخمس بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، مقسوم ثلاثة أقسام ، قسم لليتامى ، وقسم للمساكين وقسم لابن السبيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث ، فسقط سهمه وسهم ذوي القربى ، وحجتهم فيه منع أبي بكر وعمر وعثمان لذوي القربى .
قال القاضي أبو محمد : ولم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم بأن قريشاً قربى ، وقيل لم يكن في مدة أبي بكر مغنم ، وقال الشافعي : يعطي أهل الخمس منه ولا بد ويفضل الإمام أهل الحاجة ولكن لا يحرم صنفاً منهم حرماناً تاماً ، وقول مالك رحمه الله : إن للإمام أن يعطي الأحوج وإن حرم الغير .
قال القاضي أبو محمد : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصاً من الغنيمة بثلاثة أشياء :كان له خمس الخمس ، وكان له سهم في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفيّ يأخذه قبل القسمة{[5362]} ، دابة أو سيف ، أو جارية ولا صفيّ لأحد بعده بإجماع إلا ما قال أبو ثور من أن الصفيّ باق للإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال ، وذوو القربى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس : هم بنو هاشم فقط ، فقال مجاهد : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا قريش كلها قربى ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان وجبير بن مطعم في وقت قسمة سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب «إنمَا بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ما فارقونا في جاهلية ولا في الإسلام »{[5363]} .
قال القاضي أبو محمد : كانوا مع بني هاشم في الشعب وقالت فرقة : قريش كلها قربى ، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ، والمراد يتامى قريش ومساكينها ، وقالت فرقة : سهم القرابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم موقوف على قرابته ، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز إلى بني هاشم وبني المطلب فقط ، وقالت فرقة : هو لقرابة الإمام القائم بالأمر . وقال قتادة : كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حياً ، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده ، وقاله الحسن بن أبي الحسن البصري . وحكى الطبري أيضاً عن الحسن أنه قال : اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة ، وقال قوم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، فاجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة ، فكان على ذلك مدة أبي بكر رضي الله عنه ، قال غير الحسن وعمر و { اليتامى } الذين فقدوا آباءهم من الصبيان ، واليتم في بني آدم من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات ، { والمساكين } الذين لا شيء لهم وهو مأخوذ من السكون وقلة الحراك ، { وابن السبيل } الرجل المجتاز الذي قد احتاج في سفر ، وسواء كان غنيّاً في بلده أو فقيراً فإنه ابن السبيل يسمى بذلك إما لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده ، وإما لملازمة السبيل كما قالوا :ابن ماء ، وأخو سفر . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
«لا يدخل الجنة ابن زنى » وقد تقدم{[5364]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد اقتضبت فقه هذه الآية حسب الاختصار والله المستعان .
قال القاضي أبو محمد : و { ما } في قوله { ما غنمتم } بمعنى الذي ، وفي قوله { غنمتم } ضمير يعود عليها ، وحكي عن الفراء أنه جوز أن تكون «ما » شرطية بتقدير أنه ما ، وحذف هذا الضمير لا يجوز عند سيبويه إلا في الشعر ، ومنه
إن من يدخل الكنيسة يوماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5365]}
وقرأ الجمهور «فأن لله »{[5366]} بفتح الهمزة ، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم وحسين عن أبي عمرو «فإن » بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن «خمْسه » بسكون الميم ، وقوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } الآية ، قال الزجّاج عن فرقة : المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم ، «فإن » متعلقة بهذا الوعد ، وقال أيضاً عن فرقة : إنها متعلقة بقوله { واعلموا أنما غنمتم } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن قوله { واعلموا } يتضمن بانقياد وتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق «أن » بقوله { واعلموا } على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة ، وقوله { وما أنزلنا } عطف على قوله { بالله } والمشار إليه ب { ما } هو النصر والظهور الذي أنزله الله يوم بدر على نبيه وأصحابه ، أي إن كنتم مؤمنين بالله وبهذه الآيات والعظائم الباهرة التي أنزلت يوم بدر ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر أو في قصة يوم بدر على تكره في هذا التأويل الأخير .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المعنى :واعلموا أنما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا إن كنتم آمنتم ، أي فانقادوا لذلك وسلموا ، وهذا تأويل حسن في المعنى ، ويعترض فيه الفصل بين الظرف وما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام ، و { يوم الفرقان } معناه يوم الفرق بين الحق والباطل بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك ، و { الفرقان } مصدر من فرق يفرق و { الجمعان } يريد جمع المسلمين وجمع الكفار ، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر ، ولا خلاف في ذلك ، وعليه نص ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن بن علي وقتادة وغيرهم ، وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول جمهور الناس .
وقال أبو صالح : لتسع عشرة ، وشك في ذلك عروة بن الزبير ، وقال لتسع عشرة أو لسبع عشرة ، والصحيح ما عليه الجمهور ، وقوله عز وجل : { والله على كل شيء قدير } ، يعضد أن قوله { وما أنزلنا على عبدنا } يراد به النصر والظفر ، أي الآيات والعظائم من غلبة القليل الكثير ، وذلك بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير .
انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال ، الذي افتتحته السورة ، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين . والجملة معطوفة على جملة { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ الأنفال : 39 ] .
وافتتاحه ب { اعلموا } للاهتمام بشأنه ، والتنبيهِ على رعاية العمل به ، كما تقدّم في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله ، والعمل بذلك المعلوم ، فيكون { اعلموا } كناية مراداً به صريحه ولازمه . والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر ، وليس هذا نسخاً لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة ، بل هو بيان لإجمال قوله : { للَّه . . وللرسول } وقال أبو عبيد : إنّها ناسخة ، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين ، ثم شرع التخميس . وذكروا : أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر ، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر ، أي بعد نزول آية سورة الأنفال ، وفي حديث علي : أنّ رسول الله أعطاه شارفاً من الخمس يوم بدر ، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست .
وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديماً في المراد من المغنم في هذه الآية ، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك ، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر ، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس ، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى : إمّا في السهام ، وإمّا في أنواع المغانم ، وتفصيل ذلك يطول . وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالاً لاختلاف الأقوال : النفَل ، والغنيمة ، والفيء .
والوجه عندي في تفسير هذه الآية ، واتّصالها بقوله : { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] أنَّ المراد بقوله : { ما غنمتم } في هذه الآية : ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش ، وذلك ما سمّي بالأنفال ، في أوّل السورة ، فالنفل والغنيمة مترادفان ، وذلك مقتضى استعمال اللغة ، فعن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء : الأنفال الغنائم . وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا { غنمتم } وقال في أوّل السورة [ الأنفال : 1 ] : { يسألونك عن الأنفال } لاقتضاء الحال التعبيرَ هنا بفعلٍ ، وليس في العربية فعل من مادّة النفَل يفيد إسناد معناه إلى من حَصَل له ، ولذلك فآية { واعلموا أنما غنمتم } سيقت هنا بياناً لآية { يسألونك عن الأنفال فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام . ونرى أنّ تخصيص اسم النفَل بما يعطيه أميرُ الجيش أحدَ المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبَاً أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي ، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية ، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر ، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس : أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين بغير قتال ، فجعلها بمعنى الفيء ، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد .
وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة ، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال ، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية .
فاصطلحوا على أنّ الغنيمة ، ويُقال : لها المغنم ، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصباً ، بقتل أو بأسر ، أو يقتحمون ديارهم غازين ، أو مايتركه الأعداء في ديارهم ، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال . فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ ، وما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين ، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر .
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] إلخ . فقال مالك : ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلاّ الغنيمة والفيء . وأمّا النفَل فليس حقَّاً مستقلاً بالحكم ، ولكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة ، على ما يرى من الاجتهاد ، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حدّ له ، ولا يكون فيما زاد على الخُمس . هذا قول مالك ورواية عن الشافعي . وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، في أشهر الروايتين عنه ، وسعيد بن المسيّب : النفل من الخمس وهو خُمس الخمس .
وعن الأوزاعي ، ومكحول ، وجمهور الفقهاء : النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس .
و ( ما ) في قوله : { أنما } اسم موصول وهو اسم ( أنَّ ) وكتبت هذه في المصحف متّصلة ب ( أنّ ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه ، فالتفرقة في الرسم بين ( ما ) الكافّة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى ، وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير .
و { من شيء } بيان لعموم ( ما ) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة . والفاء في قوله : { فأن لله خمسه } لما في الموصول من معنى الاشتراط ، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل : إن غنمتم فحقّ لله خمسُهُ إلخ .
والمصدر المؤوّل بعد ( أنّ ) في قوله : { فأن لله خمسه } مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق ، أي فحقّ لله خمسهُ . وإنّما صيغ على هذا النظم ، مع كون معنى اللام كافياً في الدلالة على الأحقّيّة ، كما قرىء في الشاذ { فللَّه خمسه } لما يفيده الإتيان بحرف ( أنّ ) من الإسناد مرتين تأكيداً ، ولأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيراً لوجوه الاحتمال في المقدّر ، من نحو تقدير : حقّ ، أو ثبات ، أو لازم ، أو واجب .
واللام للملك ، أو الاستحقاق ، وقد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير { غنمتم } فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها .
وقد جعل الله خمس الغنيمة حقّا لله وللرسول ومن عطف عليهما ، وكان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش ، ويسمّى ذلك « المرباع » بكسر الميم .
وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقَّاً لله ، من غير ما فيه عبادة له : أنّ ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه ، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع ، فالمعنى في قوله : { فأن لله خمسه } أنّ الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ الله يصرفه حيث يشاء ، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين . وبهذا التأويل يكون الخمس مقسوماً على خمسة أسهم ، وهذا قول عامّة علماء الإسلام وشذّ أبو العالية رفيع الرياحي ولاء من التابعين ، فقال : إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة : أي على وجه يشبه القرعة ، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة : سهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل . ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وأمّا الرسول عليه الصلاة والسلام فلحقه حالتان : حالة تصرّفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة ، وحالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك . فلذلك ثبت في الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله ، ويجعل الباقي مجعل مال الله . وفي الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفيء " مالي ممّا أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم " فيقاس عليه خمس الغنيمة ، وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحقّ في مال الله . وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب في محاورته مع العباس وعلي ، حين تحاكما إليه ، رواه مالك في « الموطأ » ورجال « الصحيح » ، قال عمر : « إنّ الله كان قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين } [ الحشر : 7 ] فكانت هذه خالصة لرسول الله ، ووالله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال . فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
والغرض من جلب كلام عمر قوله : « ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
وأمّا ذو { القربى } ف ( أل ) في { القربى } عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 177 ] { وآتى المال على حبه ذوي القربى } أي ذوي قرابة المؤتي المال . والمراد هنا هو ( الرسول ) المذكور قبله ، أي ولذوي قربى الرسول ، والمراد ب ( ذي ) الجنس ، أي : ذوي قربى الرسول ، أي : قرابته ، وذلك إكرام من الله لرسوله إذ جعل لأهل قرابته حقّاً في مال الله ، لأن الله حرّم عليهم أخذ الصدقات والزكاة . فلا جرم أنّه أغناهم من مال الله . ولذلك كان حقّهم في الخمس ثابتاً بوصف القرابة .
فذو القربى مراد به كلّ من اتّصف بقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام في الأشخاص ، ولكن لفظ { القربى } جنس فهو مجمل ، وأجملت رتبة القرابة إحالة على المعروف في قربى الرجل ، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمّهات . ثم إنّ نسب الآباء بين العرب يعدّ مشتركاً إلى الحَدّ الذي تنشقّ منه الفصائل ، ومحملها الظاهر على عَصبة الرجل من أبناء جدّه الأدنى . وأبناء أدنى أجداد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم ، وإن شئت فقل : هم بنو هاشم ، لأنّ هاشماً لم يبقَ له عقب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ مِن عبد المطلب ، فالأرجح أنّ قربى الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم ، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه ، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل ، وقاله ابن عبّاس ، وعلي بن الحسين ، وعبد الله بن الحسن ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والثوري . وذهب الشافعي ، وأحمد في إحدى روايتين عنه ، التي جرى عليها أصحابه ، وإسحاق وأبو ثور : أنّ القربى هنا : هم بنو هاشم وبنو المطلب ، دون غيرهم من بني عبد مناف . ومال إليه من المالكية ابنُ العربي ، ومتمسّك هؤلاء ما رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، عن جبير بن مُطعِم : أنّه قال : أتيت أنا وعثمان بن عفّان رسولَ الله نكلّمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله : قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتُنا وقرابتهم واحدة فقال : « إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، ولا في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم . ولكن فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يحتمل العموم في الأموال المعطاة ويحتمل الخصوص لأمور : أحدها : أنّ للنبيء صلى الله عليه وسلم في حياته سهماً من الخمس فيحتمل أنّه أعطى بني المطلب عطاء من سهمه الخاصّ ، جزاء لهم على وفائهم له في الجاهلية ، وانتصارهم له ، وتلك منقبة شريفة أيّدوا بها دعوة الدين وهم مشركون ، فلم يضعها الله لهم ، وأمر رسوله بمواساتهم ، وذلك لا يكسبهم حقّاً مستمراً .
ثانيها : أنّ الحقوق الشرعية تستند للأوصاف المنضبطة ، فالقربى هي النسب ، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهاشم ، وأمّا بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس وبنو نوفل في رتبة واحدة من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ آباءَهم هم أبناء عبد مناف ، وأخوة لهاشم ، فالذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروه في الجاهلية كانت لهم المزية ، وهم الذين أعطى رسولُ الله أعيانهم ولم يثبت أنّه أعطى من نشأ بعدهم من أبنائهم الذين لم يحضروا ذلك النصر ، فمن نشأ بعدهم في الإسلام يساوون أبناء نوفل وأبناء عبد شمس ، فلا يكون في عطائه ذلك دليل على تأويل ذي القربى في الآية ببني هاشم وبني المطلب .
أمّا قول أبي حنيفة فقال الجصاص في « أحكام القرآن » : قال أبو حنيفة في « الجامع الصغير » : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم ( أي ولم يتعرّض لسهم ذوي القربى ) وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : خمس الله والرسول واحدٌ ، وخمسٌ لذي القربى فلكلّ صنف سمّاه الله تعالى في هذه الآية خمُس الخمس قال : وإنّ الخلفاء الأربعة متّفقون على أنّ ذا القربى لا يستحقّ إلاّ بالفقر . قال : وقد اختلف في ذوي القربى من هم ؟ فقال أصحابنا : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حَرّم عليهم الصدقة وهم ( آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب ) وقال آخرون : بنو المطلب داخلون فيهم .
وقال أصبغ من المالكية : ذوو القربى هم عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون الذين أمره الله بإنذارهم في قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وهم آل قُصي . وعنه أنّهم آل غالب بن فهر ، أي قريش ، ونسب هذا إلى بعض السلف وأخرَج أبو حنيفة من القربى بني أبي لهب قال : لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا قرابة بيني وبين أبي لهب فإنّه آثر علينا الأفجرين " رواه الحنفية في كتاب الزكاة ، ولا يعرف لهذا الحديث سند ، وبعد فلا دلالة فيه ، لأنّ ذلك خاصّ بأبي لهب فلا يشمل أبناءه في الإسلام . ذكر ابن حجر في { الإصابة } أنّ محمد بن إسحاق ، وغيره . روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قدمت دُرة بنت أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ الناس يصيحون بي ويقولون : إنّي بنت حطَب النار ، فقام رسول الله ؛ وهو مغضَب شديدَ الغضب ، فقال : « ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألاَ ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله » . فوصف درّة بأنّها من نسبه . والجمهور على أنّ ذوي القربى يستحقّون دون اشتراط الفقر ، لأنّ ظاهر الآية أنّ وصف قربى النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب ثبوت الحقّ لهم في خمس المغنم دون تقييد بوصف فقرهم ، وهذا قول جمهور العلماء .
وقال أبو حنيفة : لا يعطَون إلاّ بوصف الفقر وروي عن عمر بن عبد العزيز . ففائدة تعيين خمس الخمس لهم أنّ لا يحاصهم فيه مَن عَداهم من الفقراء ، هذا هو المشهور عن أبي حنيفة ، وبعض الحنفية يحكي عن أبي يوسف موافقةَ الجمهور في عدم اشتراط الفقر فيهم .
وقد جعل الله الخمس لخمسةِ مصارف ولم يعيّن مقدار ما لكلّ مصرف منه ، ولا شكّ أنّ الله أراد ذلك ؛ ليكون صرفه لمصارفه هذه موكولاً إلى اجتهاد رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده ، فيقسم بحسب الحاجات والمصالح ، فيأخذ كلّ مصرف منه ما يفي بحاجته على وجه لا ضرّ معه على أهل المصرف الآخر ، وهذا قول مالك في قسمة الخمس ، وهو أصح الأقوال ، إذ ليس في الآية تعرّض لمقدار القسمة ، ولم يَرد في السنة ما يصحّ التمسك به لذلك ، فوجب أن يناط بالحاجة ، وبتقديم الأحوج والأهمّ عند التضايق ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الإمام ، وقد قال عمر : « فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
وقال الشافعي : يقسم لكلّ مصرف الخمس من الخمس ، لأنها خمسة مصارف ، فجعلها متساوية ، لأنَّ التساوي هو الأصل في الشركة المجملة ولم يلتفت إلى دليل المصلحة المقتضية للترجيح وإذ قد جَعل ما لله ولرسوله خمساً واحداً تبعاً للجمهور فقد جعله بعد رسول الله لمصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة : ارتفع سهم رسول الله وسهم قرابته بوفاته ، وبقي الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل ، لأنّ رسول الله إنّما أخذ سهماً في المغنم لأنّه رسول الله ، لا لأنّه إمام ، فلذلك لا يخلفه فيه غيره .
وعند الجمهور أنّ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الإمام ، يبدأ بنفقته ونفقة عياله بلا تقدير ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .
{ واليتامى والمساكين وابن السبيل } تقدّم تفسير معانيها عند قوله تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 177 ] وعند قوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا إلى قوله وابن السبيل } [ النساء : 36 ] .
واليتامى وابن السبيل لا يعطون إلاّ إذا كانوا فقراء ففائدة تعيين خمس الخمس لكلّ صنف من هؤلاء أن لا يحاصهم فيه غيرهم من الفقراء والشأن ، في اليتامى في الغالب أن لا تكون لهم سعة في المكاسب فهم مظنّة الحاجّة ، ولكنّها دون الفقر فجُعل لهم حقّ في المغنم توفيراً عليهم في إقامة شؤونهم ، فهم من الحاجة المالية أحسن حالاً من المساكين ، وهم من حالة المقدرة أضعف حالاً منهم ، فلو كانوا أغنياء بأموال تركها لهم آباؤهم فلا يعطون من الخمس شيئاً .
والمساكينُ الفقراء الشديدو الفقرِ جعل الله لهم خمس الخمس كما جعل لهم حقّاً في الزكاة ، ولم يجعَل للفقراء حقّاً في الخمس كما لم يجعل لليتامى حقّاً في الزكاة .
وابنُ السبيل أيضاً في حاجة إلى الإعانة على البلاغ وتسديد شؤونه ، فهو مظنّة الحاجة ، فلو كان ابن السبيل ذا وفْر وغنىً لم يعط من الخمس ، ولذلك لم يشترط مالك وبعض الفقهاء في اليتامى وأبناءِ السبيل الفقر ، بل مُطلقَ الحاجة . واشترط أبو حنيفة الفقر في ذوي القربى واليتامى وأبناء السبيل ، وجعل ذكرِهم دون الاكتفاء بالمساكين ؛ لتقرير استحقاقهم .
وقوله : { إن كنتم آمنتم بالله } شرط يتعلق بما دلّ عليه قوله : { واعلموا أنما غنمتم } لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العملَ بالمعلوم والأمتثالَ لمقتضاه كما تقدّم ، صحّ تعلّق الشرط به ، فيكون قوله : { واعلموا } دليلاً على الجواب أوْ هو الجوابَ مقدّماً على شرطه ، والتقدير : إنْ كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ ما غنمتم إلخ . واعمَلوا بما علمتم فاقطعوا أطماعكم في ذلك الخمس واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، لأنّ الذي يتوقّف على تحقّق الإيمان بالله وآياته هو العِلم بأنّه حكم الله مع العمل المترتّب على ذلك العلم . مطلق العلم بأنّ الرسول قال ذلك .
والشرط هنا محقق الوقوع إذ لا شك في أنّ المخاطبين مؤمنون بالله والمقصود منه تحقّق المشروط ، وهو مضمون جملة { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } إلى آخرها . وجيء في الشرط بحرف ( إنْ ) التي شأن شرطها أن يكون مشكوكاً في وقوعه زيادة في حثّهم على الطاعة حيث يفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهاباً لهم ؛ ليبعثهم على إظهار تحقّق الشرط فيهم ، فالمعنى : أنكم آمنتم بالله والإيمانُ يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له وآمنتم بما أنزل الله على عبده يومَ بدر حين فرق الله بين الحقّ والباطل فرأيتم ذلك رأي العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حقّ اليقين إلى مرتبة عين اليقين فعلمتم أنّ الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، فكان ما دفعكم الله إليه أحفظ لمصلحتكم وأشدّ تثبيتاً لقوّة دينكم . فمَن رأوا ذلك وتحقّقوه فهم أحرياء بأن يعلموا أنّ ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة ، ولم يعبأوا بما يدخل عليهم من نقص في حظوظهم العاجلة ، علماً بأنّ وراء ذلك مصالحَ جمة آجلة في الدنيا والآخرة .
وقوله : { وما أنزلنا } عطف على اسم الجلالة ، والمعنى : وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ، وهذا تخلّص للتذكير بما حصل لهم من النصر يوم بدر ، والإيمانُ به يجوز أن يكون الاعتقاد الجازم بحصوله ، ويجوز أن يكون العلم به ، فيكون على الوجه الثاني من استعمال المشترك في معنييه ، أو من عموم المشترك .
وتخصيص { ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } بالذكر من بين جملة المعلومات الراجعة للاعتقاد ، لأن لذلك المُنْزَل مزيد تعلق بما أمروا به من العمل المعبر عنه بالأمر بالعلم في قوله تعالى : { واعلموا } .
والإنزالُ : هو إيصال شيء من علُوّ إلى سُفل ، وأطلق هنا على إبلاغ أمر من الله ، ومن النعم الإلهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فيجوز أن يكون هذا المُنزل من قبيل الوحي ، أي والوحي الذي أنزلناه على عبدنا يوم بَدر ، لكنه الوحي المتضمّن شيئاً يؤمنون به مثل قوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } [ الأنفال : 7 ] .
ويجوز أن يكون من قبيل خوارق العادات ، والألطاف العجيبة ، مثل إنزال الملائكة للنصر ، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه ، لتعبيد الطريق ، وتثبيتتِ الأقدام ، والاستقاء .
وإطلاق الإنزال على حصوله استعارة تشبيهاً له بالواصل إليهم من علوّ تشريفاً له كقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] . والتطهر ولا مانع من إرادة الجميع لأنّ غرض ذلك واحد ، وكذلك ما هو من معناه ممّا نعلمه أو لما علمناه .
و { يوم الفرقان } هو يوم بدر ، وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين سمّي يوم الفرقان ؛ لأنّ الفرقان الفرق بين الحقّ والباطل كما تقدّم آنفاً في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } [ الأنفال : 29 ] وقد كان يوم بدر فارقاً بين الحقّ والباطل ؛ لأنّه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء ، وهو نصر المحقّين الأذلّة على الأعزّة المبطلين ، وكفى بذلك فرقاناً وتمييزاً بين من هم على الحقّ ، ومن هم على الباطل .
فإضافة { يوم } إلى { الفرقان } إضافة تنويه به وتشريف ، وقوله : { يوم التقى الجمعان } بدل من { يوم الفرقان } فإضافة { يوم } إلى جملة : { التقى الجمعان } للتذكير بذلك الإلتقاء العجيب الذي كان فيه نصرهم على عدوّهم . والتعريف في { الجمعان } للعهد . وهما جمع المسلمين وجمع المشركين .
وقوله : { والله على كل شيء قدير } اعتراض بتذييل الآيات السابقة وهو متعلّق ببعض جملة الشرط في قوله : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } فإنّ ذلك دليل على أنّه لا يتعاصى على قدرته شيء ، فإنّ ما أسداه إليكم يوم بدر لم يكن جارياً على متعارف الأسباب المعتادة ، فقدرة الله قلبت الأحوال وأنشأت الأشياءَ من غير مجاريها ولا يبعد أن يكون من سبب تسمية ذلك اليوم { يوم الفرقان } أنّه أضيف إلى الفرقان الذي هو لَقب القرآن ، فإنّ المشهور أنّ ابتداء نزول القرآن كان يوم سبعة عشر من رمضان ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه .