معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

قوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ، نزلت في جد بن قيس المنافق ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال : يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ يعنى الروم ، تتخذ منهم سراري ووصفاء ، فقال جد : يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ، ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي . قال ابن عباس : اعتل جد بن قيس ولم تكن له علة إلا الإنفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أذنت لك فأنزل الله عز وجل : { ومنهم } يعنى من المنافقين { من يقول ائذن لي } في التخلف { ولا تفتني } ببنات الأصفر . قال قتادة : ولا تؤثمني : { ألا في الفتنة سقطوا } ، أي : في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر الله وأمر رسوله .

وقوله تعالى : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ، مطبقة بهم وجامعة لهم فيها .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

{ 49 } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }

أي : ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف ، ويعتذر بعذر آخر عجيب ، فيقول : { ائْذَنْ لِي } في التخلف { وَلَا تَفْتِنِّي } في الخروج ، فإني إذا خرجت ، فرأيت نساء بين الأصفر لا أصبر عنهن ، كما قال ذلك { الجد بن قيس }

ومقصوده -قبحه اللّه- الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن ، فإن في خروجي فتنة وتعرضا للشر ، وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر .

قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصده ، [ فإن ] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة ، وهي معصية اللّه ومعصية رسوله ، والتجرؤ على الإثم الكبير ، والوزر العظيم ، وأما الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف ، وهي متوهمة ، مع أن هذا القائل قصده التخلف لا غير ، ولهذا توعدهم اللّه بقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ليس لهم عنها مفر ولا مناص ، ولا فكاك ، ولا خلاص .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

{ ومنهم من يقول ائذن لي } في القعود . { ولا تفتنّي } ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي ، وفيه أشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم يأذن ، أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي . أو في الفتنة بنساء الروم لما روي : أن جد بن قيس قال : قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ولكني أعينك بمالي فاتركني . { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه . { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } جامعة لهم يوم القيامة ، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

وقوله تعالى { ومنهم من يقول ائذن لي } نزلت في الجد بن قيس ، «وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : ( هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ ) ، وقال له وللناس : ( اغزوا تغنموا بنات الأصفر ) ، فقال له الجد بن قيس : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن ، ذكر ابن إسحاق نحو هذا من القول الذي فيه فتور كثير وتخلف في الاعتذار{[5686]} ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر » ، فقال الجد ائذن لي ولا تفتنا بالنساء ، وهذا منزع غير الأول إذا نظر ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة{[5687]} ، وقال ابن عباس إن الجد قال : ولكني أعينك بمالي ، وتأول بعض الناس قوله { ولا تفتني } أي لا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك ومخالفتك ، فسهل أنت عليّ ودعني غير مجلح{[5688]} ، وهذا تأويل حسن واقف مع اللفظ ، لكن تظاهر ما روي من ذكر بنات الأصفر ، وذلك معترض في هذا التأويل ، وقرأ عيسى بن عمر «ولا تُفتني » بضم التاء الأولى قال أبو حاتم هي لغة بني تميم ، والأصفر هو الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وكان أصفر اللون فيقال للروم بنو الأصفر ، ومن ذلك قول أبي سفيان : َأِمَر َأْمُر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر ، ومنه قول الشاعر [ عدي بن زيد العبادي ] : [ الخفيف ]

وبنو الأصفر الكرام ملوك الر*** وم لم يبق منهمُ مذكور{[5689]}

وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم فتزوج وأنسل بنات لهن جمال وهذا ضعيف ، وقوله : { ألا في الفتنة سقطوا } أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم وصح عندكم من كفرهم وفسد مما بينكم وبينهم ، و { سقطوا } عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم ومنه على الخبير سقطت{[5690]} ، ثم قال { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ، وهذا توعد شديد لهم أي هي مآلهم ومصيرهم كيف ما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون فهي محيطة بهذا الوجه .


[5686]:- أخرجه ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مع اختلاف يسير في الألفاظ، (الدر المنثور) (والسيرة النبوية عن ابن إسحاق).
[5687]:- الحديث في تفسير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه. (الدر المنثور).
[5688]:- من قولهم: جلّح في الأمر ركب رأسه فيه، أو أقدم عليه ومضى فيه.
[5689]:- البيت لعدّي بن زيد العبادّي.
[5690]:- قيل: إن هذا المثل لمالك بن جبير العامري أحد حكماء العرب، وقد تمثل به الفرزدق للحسين بن علي رضي الله عنهما حين أقبل يريد العراق والفرزدق يريد الحجاز، وذلك حين سأله الحسين بقوله: ما وراءك؟ فأجابه قائلا: "على الخبير سقطت"، قلوب الناس معك وألسنتهم مع بني أمية ينزل من السماء. فقال الحسين رضي الله عنه: صدقتني. (مجمع الأمثال للميداني) 1/ 648.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو ، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم ، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون : لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] ، وقيل : قال جماعة منهم : ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية . وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذنٍ ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : إنّ الجِدّ بن قيس قال : يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي ، فأذن لهم . ولعلّ كلَّ ذلك كان .

والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة { ألا في الفتنة سقطوا } للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة . فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا ، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه ، أي في الفتنة العظيمة سقطوا ، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم { ولا تفتنى } كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه ، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق ، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم ، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس . وتقدّم بيان { الفتنة } قريباً .

والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة : شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها ، فهم كالساقط في هُوّة على حينِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب « على الخبير سقطتَ » .

وتقديم المجرور على عامله ، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة .

وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل .

وجملة { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } معترضة والواو اعتراضية ، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر . والكفر يستحقّ جهنّم .

وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها ، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات . والمراد بالكافرين : جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله : { إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] .

ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله : { لمحيطة بالكافرين } إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال ، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال .