الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

قوله تعالى : " ومنهم من يقول ائذن لي " من أذن يأذن . وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل ، ولا يجتمع همزتان ، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ايذن . فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين ، ثم همزت فقلت : " ومنهم من يقول ائذن لي " وروى ورش عن نافع " ومنهم من يقول اوذن لي " خفف الهمزة{[8039]} . قال النحاس : يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط . فإن قلت : ايذن لفلان وأذن لغيره ، كان الثاني بغير ياء وكذا الفاء . والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان . قال محمد بن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك : ( يا جد ، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء ) فقال الجد : قد عرف قومي أني مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( قد أذنت لك ) فنزلت هذه الآية . أي لا تفتني بصباحة وجوههم ، ولم يكن به علة إلا النفاق . قال المهدوي : والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم . وقيل : سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم ، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة ، فكن صفرا لعسا{[8040]} . قال ابن عطية : في قول ابن أبي إسحاق فتور . وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اغزوا تغنموا بنات الأصفر ) فقال له الجد : ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء . وهذا منزع غير الأول ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة . ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم : ( من سيدكم يا بني سلمة ) ؟ قالوا : جد بن قيس ، غير أنه بخيل جبان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأي داء أدوى{[8041]} من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور ) . فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه :

وسُوِّدَ بشر بن البراء لجوده*** وحق لبشر بن البرا أن يُسَوَّدَا

إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله*** وقال خذوه إنني عائد غدا

قوله تعالى : " ألا في الفتنة سقطوا " أي في الإثم والمعصية وقعوا . وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم . " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " أي مسيرهم إلى النار ، فهي تحدق بهم .


[8039]:أي أبدلها واوا لضمة اللام قبلها. فينطق باللام كأنها متصلة بواو الجماعة.
[8040]:اللعس: سواد اللثة والشفة. وقيل: اللعس واللعسة: سواد يعلو شفة المرأة البيضاء وقيل: هو سواد في حمرة.
[8041]:أي أي عيب أقبح منه. قال ابن الأثير: "والصواب أدوأ بالهمز، وموضوعه أول الباب. ولكن هذا يروى، إلا أن يجعل من باب دوى يدوي دوا فهو دو إذا هلك بمرض باطن.