اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } الآية .

{ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } كقوله : " يَا صالحُ ائتنا " من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة ، وإبدالها واواً ، لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى . وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة ، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً .

قال أبو جعفرٍ " إذا دخلت " الواو " و " الفاء " على " ائذن " فهجاؤها : ألف وذال ونون ، بغير ياء . أو " ثم " فالهجاءُ : ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ . والفرق : أنَّ " ثُمَّ " يوقف عليها وينفصل ، بخلافهما " .

قال شهابُ الدِّين " يعني إذا دخلت واوُ العطف ، أو فاؤه ، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها ، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً ، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ ، فتكتب " فأذَنْ " ، و " أذَنْ " فهذه الألف هي صورة الهمزة ، التي هي فاء الكلمة " .

وإذا دخلت عليها " ثم " كُتِبَتْ كذا : ثم ائتُوا ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة .

قال شهابُ الدين : وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع " ثم " يختصُّ بهذه اللَّفظة ، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً ، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع " ثم " هكذا : " ثُمَّ أتُوا " ، وكان القياس على " ثُم ائْذَانْ " " ثم ائْتُوا " ، وفيه نظرٌ ، وقرأ{[17859]} عيسى بن عمر ، وابن السَّميفع ، وإسماعيل المكي ، فيما روى عنه ابن مجاهد " ولا تُفْتِنِّي " بضم حرف المضارعة ، من " أفتنه " رباعياً . قال أبُو حاتم " هي لغة تميمٍ " وقيل : أفتنه : أدخله فيها ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين ، فقال : [ الطويل ]

لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ *** سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ{[17860]}

ومتعلق " الإذن " : القعودُ ، أي : ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو ، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك . أي : لا تهلكني بخروجي معك ، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ ، ولا طاقة لي به . وقيل : لا تفتنيِّي ؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي ، وقيل : نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا تجهَّز لغزو تبوك ، قال له : " يا أبا وهب ، هل كل في جلاد بني الأصفر ؟ يعني : الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء " فقال جدُّ : يا رسول الله ، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ ، ائذن لي في القعود ، ولا تفتنِّي بهنّ ، وأعينكم بمالي{[17861]} .

قال ابن عباسٍ : " اعتلَّ جدُّ بن قيس ، ولم تكن علته إلا النفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " قد أذنت لك " ، فأنزل الله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } الآية{[17862]} .

قوله : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } أي : في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم ، وخلافهم أمر الله ورسوله .

وفي مصحف أبي " سَقَطَ " لأنَّ لفظة " مِنْ " موحد اللفظ ، مجموع المعنى ، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض ، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } مطبقة عليهم .


[17859]:ينظر: الكشاف 2/277، المحرر الوجيز 3/42، البحر المحيط 5/52، الدر المصون 3/471.
[17860]:البيت لأعشى همدان وهو عبد الرحمن بن عبد الله ونسب إلى ابن قيس الأعشى الكبير وليس في ديوانه ينظر: الخصائص 3/315 التهذيب 14/168 مجاز القرآن 1/168 اللسان 5/3344 البحر المحيط 5/52 الدر المصون 3/471.
[17861]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/387) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/443) وعزاه إلى ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في "المعرفة". وذكره الهيثمي في "المجمع" (7/33) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف، وله شاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/443) عن ابن عباس بلفظ مختلف وعزاه للطبراني وابن مردويه. وذكره الهيثمي في "المجمع" (7/3) وقال: وفيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان.
[17862]:انظر الحديث السابق.