قوله تعالى : { والمطلقات } . أي المخليات من حبال أزواجهن .
قوله تعالى : { يتربصن } . ينتظرن .
قوله تعالى : { بأنفسهن ثلاثة قروء } . فلا يتزوجن ، والقروء : جمع قرء ، مثل قرع ، وجمعه القليل أقرؤ ، والجمع الكثير أقراء ، واختلف أهل العلم في القرء فذهب جماعة إلى أنها الحيض ، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد ، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة " دعي الصلاة أيام أقرائك " وإنما تدع الصلاة أيام حيضها . وذهب جماعة إلى أنها الأطهار ، وهو قول زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ، وهو قول الفقهاء السبعة والزهري وبه قال ربيعة ومالك والشافعي ، واحتجوا بأن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : " مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " . فأخبر أن زمان العدة هو الطهر ، ومن جهة اللغة .
ففي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالاً وفي الحي رفعةً *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأراد به أنه كان يخرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن ، وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض ، وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة تنقضي عدتها على قول من يجعلها أطهاراً وتحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءاً .
قالت عائشة رضي الله عنها : إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ، وبرئ منها . ومن ذهب إلى أن الأقراء هي الحيض يقول : لا تنقصني عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة ، وهذا الخلاف من حيث أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض جميعاً ، يقال أقرأت المرأة : إذا حاضت وأقرأت : إذا طهرت ، فهي مقرئ ، واختلفوا في أصله فقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : هو الوقت لمجيء الشيء وذهابه ، يقال : رجع فلان لقرئه ولقارئه ، أي لوقته الذي يرجع فيه وهذا قارئ الرياح ، أي وقت هبوبها .
كرهت العقر عقر بني شليل *** إذا هبت لقارئها الرياح
أي لوقتها ، والقرء يصلح للوجهين ، لأن الحيض يأتي لوقت ، والطهر مثله ، وقيل : هو من القرء وهو الحبس والجمع ، تقول العرب : ما قرأت الناقة سلأً قط ، أي لم تضم رحمها على ولد ، ومنه قريت الماء في المقرأة ، وهي الحوض : أي جمعته ، بترك همزها ، فالقرء هاهنا احتباس الدم واجتماعه ، فعلى هذا يكون الترجيح فيه للطهر ؛ لأنه يحبس الدم ويجمعه ، والحيض يرخيه ويرسله ، وجملة الحكم في العدد : أن المرأة إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل ، سواء وقعت الفرقة بينها وبين الزوج بالطلاق أو بالموت لقوله تعالى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فإن لم تكن حاملاً نظر : إن وقعت الفرقة بينهما بموت الزوج فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر ، سواء مات الزوج قبل الدخول أو بعده ، وسواء كانت المرأة ممن تحيض ، أو لا تحيض لقول الله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) وإن وقعت الفرقة بينهما بالطلاق في الحياة نظر فإن كان قبل الدخول بها ، فلا عدة عليها ، لقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) . وإن كان بعد الدخول نظر : إن كانت المرأة ممن لم تحض قط أو بلغت في الكبر سن الآيسات فعدتها ثلاثة أشهر ، لقول الله تعالى : ( واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) . وإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقرؤ لقوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) وقوله " يتربصن بأنفسهن " لفظه خبر ، ومعناه أمر ، وعدة الأمة إن كانت حاملاً بوضع الحمل كالحرة ، وإن كانت حائلاً ففي الوفاة عدتها شهران وخمس ليال ، وفي الطلاق ، إن كانت ممن تحيض فعدتها قرءان ، وإن كانت ممن لا تحيض فشهر ونصف : وقيل شهران كالقرءين في حق من تحيض .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهراً ونصفاً .
قوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } . قال عكرمة : يعني الحيض وهو أن يريد الرجل مراجعتها فتقول : قد حضت الثلاثة وقال ابن عباس وقتادة : يعني الحمل ، ومعنى الآية : لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض ، والحمل لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد .
قوله تعالى : { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } . معناه أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء ، كما تقول : أدّ حقي إن كنت مؤمناً ، يعني أداء الحقوق من فعل المؤمنين .
قوله تعالى : { وبعولتهن } . يعني أزواجهن جمع بعل ، كالفحولة جمع فحل ، سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمور زوجته وأصل البعل السيد والمالك .
قوله تعالى : { أحق بردهن } . أولى برجعتهن إليهم .
قوله تعالى : { في ذلك } . أي في حال العدة .
قوله تعالى : { إن أرادوا إصلاحا } . أي إن أرادوا بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار ، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ، ثم تركها مدة ، ثم طلقها ، ثم إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها .
قوله تعالى : { ولهن } . أي للنساء على الأزواج مثل الذي عليهن للأزواج بالمعروف . قال ابن عباس في معناه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي لأن الله تعالى قال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر ابن طرفة الشجري ، أنا أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسه ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا موسى بن إسماعيل ، أنا حماد أنا أبو قزعة سويد ابن حجر الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال : " قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وأن تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا محمد بن الحجاج ، أنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال : دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسرد قصة حجة الوداع إلى أن ذكر خطبته يوم عرفة قال : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ونصحت ، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب ابن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن يحيى ، أنا يعلى بن عبيد ، أنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائكم " .
قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } . قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال ، وقال قتادة : بالجهاد ، وقيل بالعقل ، وقيل بالشهادة ، وقيل بالميراث ، وقيل بالدية وقيل بالطلاق ، لأن الطلاق بيد الرجال ، وقيل بالرجعة ، وقال سفيان و زيد بن أسلم : بالإمارة وقال القتيبي : ( وللرجال عليهن درجة ) معناه فضيلة في الحق .
قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى بن البرني ، أنا حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثم رجع ، فرأى رجالاً يسجد بعضهم لبعض ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : النساء اللاتي طلقهن أزواجهن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أي : ينتظرن ويعتددن مدة { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أي : حيض ، أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ، مع أن الصحيح أن القرء ، الحيض ، ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ ، منها : العلم ببراءة الرحم ، إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء ، علم أنه ليس في رحمها حمل ، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب ، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وحرم عليهن ، كتمان ذلك ، من حمل أو حيض ، لأن كتمان ذلك ، يفضي إلى مفاسد كثيرة ، فكتمان الحمل ، موجب أن تلحقه بغير من هو له ، رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة ، فإذا ألحقته بغير أبيه ، حصل من قطع الرحم والإرث ، واحتجاب محارمه وأقاربه عنه ، وربما تزوج ذوات محارمه ، وحصل في مقابلة ذلك ، إلحاقه بغير أبيه ، وثبوت توابع ذلك ، من الإرث منه وله ، ومن جعل أقارب الملحق به ، أقارب له ، وفي ذلك من الشر والفساد ، ما لا يعلمه إلا رب العباد ، ولو لم يكن في ذلك ، إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه ، وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة ، وهي الزنا لكفى بذلك شرا .
وأما كتمان الحيض ، بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة ، ففيه من انقطاع حق الزوج عنها ، وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر ، كما ذكرنا ، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض ، لتطول العدة ، فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه ، بل هي سحت عليها محرمة من جهتين :
من كونها لا تستحقه ، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة ، وربما راجعها بعد انقضاء العدة ، فيكون ذلك سفاحا ، لكونها أجنبية عنه ، فلهذا قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر ، وإلا فلو آمن بالله واليوم الآخر ، وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ، لم يصدر منهن شيء من ذلك .
وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة ، عما تخبر به عن نفسها ، من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها ، كالحيض والحمل ونحوه{[141]} .
ثم قال تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة ، أن يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } أي : رغبة وألفة ومودة .
ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح ، فليسوا بأحق بردهن ، فلا يحل لهم أن يراجعوهن ، لقصد المضارة لها ، وتطويل العدة عليها ، وهل يملك ذلك ، مع هذا القصد ؟ فيه قولان .
الجمهور على أنه يملك ذلك ، مع التحريم ، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح ، لا يملك ذلك ، كما هو ظاهر الآية الكريمة ، وهذه حكمة أخرى في هذا التربص ، وهي : أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها ، فجعلت له هذه المدة ، ليتروى بها ويقطع نظره .
وهذا يدل على محبته تعالى ، للألفة بين الزوجين ، وكراهته للفراق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وهذا خاص في الطلاق الرجعي ، وأما الطلاق البائن ، فليس البعل بأحق برجعتها ، بل إن تراضيا على التراجع ، فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط .
ثم قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة .
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف ، وهو : العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة ، والأحوال ، والأشخاص والعوائد .
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة ، والمعاشرة ، والمسكن ، وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف ، فهذا موجب العقد المطلق .
وأما مع الشرط ، فعلى شرطهما ، إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا .
{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : رفعة ورياسة ، وزيادة حق عليها ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }
ومنصب النبوة والقضاء ، والإمامة الصغرى والكبرى ، وسائر الولايات مختص بالرجال ، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور ، كالميراث ونحوه .
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : له العزة القاهرة والسلطان العظيم ، الذي دانت له جميع الأشياء ، ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه .
ويخرج من عموم هذه الآية ، الحوامل ، فعدتهن وضع الحمل ، واللاتي لم يدخل بهن ، فليس لهن عدة ، والإماء ، فعدتهن حيضتان ، كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم ، وسياق الآيات{[142]} يدل على أن المراد بها الحرة .
هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة إذا طُلِّقت ، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ، لأنها على النصف من الحرة ، والقُرْء لا يتبعض فكُمّل لها قرءان . ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " .
رواه أبو داود ، والترمذي وابن ماجة . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية . وقال الحافظ الدارقطني وغيره : الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه .
ورواه ابن ماجة من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا . قال الدارقطني : والصحيح ما رواه سالم ونافع ، عن ابن عمر قوله . وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب . قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف . وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم ، حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ، وضعفه .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن عَيّاش - عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه : أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله ، عز وجل ، حين طلقت أسماء العدة للطلاق ، فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق ، يعني : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } .
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو ؟ على قولين :
أحدهما : أن المراد بها : الأطهار ، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، قال الزهري : فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق عروة . وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : " ثلاثة قروء " فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراءُ ؟ إنما الأقراء : الأطهارُ .
وقال مالك : عن ابن شهاب ، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة . وقال مالك : عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها . وقال مالك : وهو الأمر عندنا . ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وأبان بن عثمان ، وعطاء ابن أبي رباح ، وقتادة ، والزهري ، وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب مالك ، والشافعي [ وغير واحد ، وداود وأبي ثور ، وهو رواية عن أحمد ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي : في الأطهار . ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان ] .
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر - وهو الأعشى - :
ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة *** تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا
مُوَرَّثة عدَّا ، وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قُروء نسائكا
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها .
والقول الثاني : أن المراد بالأقراء : الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها . وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة . قال الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [ وقد وضعت مائي ] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي . فقال عمر لعبد الله - يعني ابن مسعود - [ ما ترى ؟ قال ] : أراها امرأته ، ما دون أن تحل لها الصلاة . قال [ عمر : ] وأنا أرى ذلك .
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، ومكحول ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، أنهم قالوا : الأقراء : الحيض .
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء الحيض . وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن صالح بن حي ، وأبي عبيد ، وإسحاق بن راهويه .
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ، من طريق المنذر بن المغيرة ، عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرائك " . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور . وذكره ابن حبان في الثقات .
وقال ابن جرير : أصلُ القرء في كلام العرب : " الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم " . وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض [ العلماء ] الأصوليين فالله أعلم . وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت . وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض : قُرْءًا ، وتسمي الطهر : قرءا ، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا : قرءا . وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين .
وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } أي : من حَبَل أو حيض . قاله ابن عباس ، وابن عُمَر ، ومجاهد ، والشعبي ، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغير واحد .
وقوله : { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } تهديد لهن على قول خلاف الحق . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين ، وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ، فردّ الأمر إليهن ، وتُوُعِّدْنَ فيه ، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في تطويلها ، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } أي : وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير . وهذا في الرجعيات . فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن . وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين ، من استشهادهم على مسألة عود الضمير - هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا ؟ - بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ، والله أعلم .
وقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ، في حجة الوداع : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟
قال : " أن تطعمها إذا طعمْتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تُقَبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت " . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : في الفضيلة في الخُلُق ، والمنزلة ، وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .
وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 228 )
قرأ جمهور الناس «قروء » على وزن فعول ، اللام همزة ، وروي عن نافع شد الواو دون همز ، وقرأ الحسن «ثلاثة قَرْوٍ » بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة ، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عبادة ، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها . بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة ، و { المطلقات } لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن ، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد( {[2161]} ) ، وقال قوم : تناولهن العموم ثم نسخن ، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض ، وهو عرف النساء وعليه معظمهن ، فأغنى ذلك عن النص عليه ، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده ، وقرء النجم وقت طلوعه ، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
يا رب ذي ضغن على فارض . . . له قروء كقروء الحائض
أراد وقت غضبه( {[2162]} ) ، فالحيض على هذا( {[2163]} ) يسمى قرءاً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اتركي الصلاة أيام اقرائك »( {[2164]} ) ، أي أيام حيضك ، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءاً ، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض ، ومنه قول الأعشى( {[2165]} ) :
أفي كلّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غزوةِ . . . تَشُدُّ لأقْصَاها عَزِيمَ عَزَائِكَا
مورثة مالاً وفي الحي رفعة . . . بما ضاع فيها من قروء نسائكا( {[2166]} )
أي من أطهارهن ، وقال قوم : القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض ، وهو جمعه ، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر ، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة ، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم : المراد الحيض ، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة ، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل ، هذا قول سعيد بن جبير وغيره ، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك : المراد الأطهار ، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة ، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء ، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر . وقول ابن القاسم ومالك إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة . وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره ، وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض ، واختلف المتأولون في المراد بقوله { ما خلق } فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك وهو الحيض والحبل جميعاً( {[2167]} ) ، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه ، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع ، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه ، فأضرت به ، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه ، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع ، وقال قتادة : «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية » ، وقال السدي : «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل ؟ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها ، فأمرهن الله بالصدق في ذلك » .
وقال إبراهيم النخعي وعكرمة : المراد ب { ما خلق } الحيض ، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد الحمل ، والعموم راجح ، وفي قوله تعالى : { ولا يحل لهن } ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر( {[2168]} ) ، ولو كان الاستقصاء مباحاً لم يكن كتم ، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهُن » بضم الهاء( {[2169]} ) ، وقوله { إن كان يؤمنّ بالله واليوم الآخر } الآية ، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق ، وهذا كما تقول : إن كنت حراً فانتصر ، وأنت تخاطب حراً ، وقوله { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً } ، البعل : الزوج ، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس . لكن هو المسموع . وقال قوم : الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة ، وقيل : هي هاء تأنيث دخلت على بعول . وبعول لا شذوذ فيه . وقرأ مسعود «بردتهن » بزيادة تاء ، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهُن » بضم الهاء ، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة ، والإشارة ب { ذلك } هي إلى المدة ، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة ، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن ، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح ، فإن قصد أحد بعد هذا إفساداً أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر ، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل .
وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي : إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها ، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق ، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن .
وقوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ، قال ابن عباس : «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة » ، وقال الضحاك وابن زيد : ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه ، والآية تعم جميع حقوق الزوجية( {[2170]} ) ، وقوله { وللرجل عليهن درجة } قال مجاهد وقتادة : ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه ، وقال زيد بن أسلم وابنه : ذلك في الطاعة ، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها ، وقال عامر الشعبي : «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل ، وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت » ، فقال ابن عباس : «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق » ، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه( {[2171]} ) ، وهذا قول حسن بارع ، وقال ابن إسحاق : «الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها » ، وقال ابن زيد : «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده » ، وقال حميد : «الدرجة اللحية » .
وقال القاضي أبو محمد : وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها ، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل ، و { عزيز } لا يعجزه أحد ، و { حكيم } فيما ينفذه من الأحكام والأمور .
عطف على الجملة قبلها لشدة المناسبة وللاتحاد في الحكم وهو التربص ، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة ، ولذلك لم يقدم قوله : { الطلاق مرتان } [ البقرة : 229 ] على قوله : { والمطلقات يتربصن } لأن هذه الآي جاءت متناسقة منتظمة على حسب مناسبات الانتقال على عادة القرآن في إبداع الأحكام وإلقائها بأسلوب سَهل لا تسْأَم له النفس ، ولا يجيء على صورة التعليم والدرس .
وسيأتي كلامنا على الطلاق عند قوله تعالى : { الطلاق مرتان } .
وجملة { والمطلقات يتربصن } خبرية مراد بها الأمر ، فالخبر مستعمل في الإنشاء وهو مجاز فيجوز جعله مجازاً مرسلاً مركباً ، باستعمال الخبر في لازم معناه ، وهو التقرر والحصول ، وهو الوجه الذي اختاره التفتازاني في قوله تعالى : { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار } [ الزمر : 19 ] بأن يكون الخبر مستعملاً في المعنى المركب الإنشائي ، بعلاقة اللزوم بين الأمر مثلاً كما هنا وبين الامتثال ، حتى يقدر المأمور فاعلاً فيخبر عنه ويجوز جعله مجازاً تمثيلياً كما اختاره الزمخشري في هذه الآية إذ قال : « فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء : رحمه الله ثقة بالاستجابة » قال التفتازاني : فهو تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو محقق الوقوع في الماضي كما في قول الناس : رحمه الله ، أو في المستقبل ، أو الحال ، كما في هذه الآية . قلت : وقد تقدم في قوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] وأنه أُطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .
والتعريف في ( المطلقات ) تعريف الجنس ، وهو مفيد للاستغراق ، إذ لا يصلح لغيره هنا . وهو عام في المطلقات ذوات القروء بقرينة قوله : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ، إذ لا يتصور ذلك في غيرهن ، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء ، وليس هذا بعام مخصوص في هذه ، بمتصل ولا بمنفصل ، ولا مراد به الخصوص ، بل هو عام في الجنس الموصوف بالصفة المقدرة التي هي من دلالة الاقتضاء ، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء ، وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء ، فأخرجت الإماء بما ثبت في السنة أن عدة الأمة حيضتان ، رواه أبو داود والترمذي ، فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء ، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات ، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء ، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض ، والآيسات من المحيض ، والحوامل ، وقد بين حكمهن في سورة الطلاق ، إلاّ أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء ، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الأحزاب : 49 ] فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل .
وقال المالكية والشافعية : إنها عام مخصوص منه الأصناف الأربعة بمخصصات منفصلة ، وفيه نظر فيما عدا المطلقة قبل البناء ، وهي عند الحنفية عام أريد به الخصوص بقرينة ، أي بقرينة دلالة الأحكام الثابتة لتلك الأصناف . وإنما لجأُوا إلى ذلك لأنهم يرون المخصص المنفصل ناسخاً ، وشرط النسخ تقرر المنسوخ ، ولم يثبت وقوع الاعتداد في الإسلام بالأقراء لكل المطلقات .
والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخاً ، أصلٌ غيرُ جدير بالتأصيل ؛ لأن تخصيص العام هو وروده مُخْرَجاً منه بعض الأفراد بدليلٍ ، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير ، ولا يمكن فيه القول بنسخ العام للخاص لظهور بطلانه ولا بنسخ الخاص للعام لظهور سبقه ، والناسخ لا يسبق ، وبعد ، فمهما لم يقع عمل بالعموم فالتخصيص ليس بنسخ .
و { يتربصن بأنفسهن } أي يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء ، وزيد { بأنفسهن } تعريضاً بهن ، بإظهار حالهن في مظهر المستعجلات ، الراميات بأنفسهن إلى التزوج ، فلذلك أُمِرْن أن يتربصن بأنفسهن ، أي يمسكنهن ولا يرسلنهن إلى الرجال . قال في « الكشاف » : « ففي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن » وقد زعم بعض النحاة أن { بأنفسهن } تأكيد لضمير ( المطلقات ) ، وأن الباء زائدة ، ومن هنالك قال بزيادة الباء في التوكيد المعنوي ، ذكره صاحب « المغني » ورده من جهة اللفظ بأن حق توكيد الضمير المتصل أن يكون بعد ذكر الضمير المنفصل أو بفاصل آخر ، إلاّ أن يقال : اكتفى بحرف الجر ؛ ومن جهة المعنى بأن التوكيد لا داعي إليه إذ لا يذهب عقل السامع إلى أن المأمور غير المطلقات الذي هو المبتدأ ، الذي تضمن الضمير خبره .
وانتصب { ثلاثة قروء } ، على النيابة عن المفعول فيه ؛ لأن الكلام على تقدير مضاف ؛ أي مدة ثلاثة قروء ، فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب .
والقروء جمع قرء بفتح القاف وضمها وهو مشترك للحيض والطهر . وقال أبو عبيدة : إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض ، أو من الحيض إلى الطهر ، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقاً على أحد طرفيه ، وتبعه الراغب ، ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين . وأحسب أن أشهر معاني القرء عند العرب هو الطهر ، ولذلك ورد في حديث عمر أن ابنه عبد الله لما طلق امرأته في الحيض سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وما سؤاله إلاّ من أجل أنهم كانوا لا يطلقون إلاّ في حال الطهر ليكون الطهر الذي وقع فيه الطلاق مبدأ الاعتداد ، وكون الطهر الذي طلقت فيه هو مبدأ الاعتداد هو قول جميع الفقهاء ما عدا ابن شهاب فإنه قال : يلغَى الطهر الذي وقع فيه الطلاق .
واختلف العلماء في المراد من القروء في هذه الآية ، والذي عليه فقهاء المدينة وجمهور أهل الأثر أن القرء هو الطهر وهذا قول عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر وجماعة من الصحابة من فقهاء المدينة ومالك والشافعي في أوضح كلاميه ، وابن حنبل . والمراد به الطهر الواقع بين دَمَيْن . وقال علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة إنه الحيض . وعن الشافعي في أحد قوليه أنه الطهر المُنتقَل منه إلى الحيض ، وهو وفاق لما فسر به أبو عبيدة ، وليس هو بمخالف لقول الجمهور : إن القرء الطهر ، فلا وجه لعده قولاً ثالثاً .
ومرجِع النظر عندي في هذا إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة من حمل المطلق ، وانتطارُ الزوج لعله أن يرجع . فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد ، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظاراً للرجعة . فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم ، في استبراء الأمة في انتقال الملك ، وفي السبايا ، وفي أحوال أخرى ، مختلفاً في بعضها بين الفقهاء ، فتعين أن ما زاد على حيض واحد ليس لتحقق عدم الحمل ، بل لأن في تلك المدة رفقاً بالمطلق ، ومشقة على المطلقة ، فتعارض المقصدان ، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمداً بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها ، وحصول الطهر بعدها ، فالذين جعلوا القروء أطهاراً راعوا التخفيف عن المرأة ، مع حصول الإمهال للزوج ، واعتضدوا بالأثر . والذين جعلوا القروء حيضات زادوا للمطلق إمهالاً ؛ لأن الطلاق لا يكون إلاّ في طهر عند الجميع ، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح ، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء .
وقروء صيغة جمع الكثرة ، استعمل في الثلاثة ، وهي قلة توسعاً ، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب ، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس بوجود صريح العدد . وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة ، وتبِين المطلقة الرجعية من مفارقها ، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة ، قال الجمهور : إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة ، بعد تحقق أنه دم الحيض .
ومن أغرب الاستدلال لكون القرء الطهر الاستدلال بتأنيث اسم العدد في قوله تعالى : { ثلاثة قروء } . قالوا : والطهر مذكر فلذلك ذكر معه لفظ ( ثلاثة ) ، ولو كان القرء الحيضة والحيض مؤنث لقال ثلاث قروء ، حكاه ابن العربي في « الأحكام » ، عن علمائنا ، يعني المالكية ولم يتعقبه وهو استدلال غير ناهض ؛ فإن المنظور إليه في التذكير والتأنيث إما المسمّى إذا كان التذكير والتأنيث حقيقياً ، وإلاّ فهو حال الاسم من الاقتران بعلامة التأنيث اللفظي ، أو إجراء الاسم على اعتبار تأنيث مقدر مثل اسم البئر ، وأما هذا الاستدلال فقد لبَّس حكم اللفظ بحكم أحد مرادفيه .
وقوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان ، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم ، فهو خبر عن التشريع ، فهو إعلام لهن بذلك ، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته ، كقول النابغة : « كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً » أي كتمتك حال ليل .
و { ما خلق الله في أرحامهن } موصول ، فيجوز حمله على العهد ، أي ما خلاق من الحيض بقرينة السياق . ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل ، وهو الظاهر وهو من العام الوارد على سبب خاص ؛ لأن اللفظ العام الوارد في القرآن عقب ذكر بعض أفراده ، قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص ، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذُكر قَبله ، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس ، لأن الحكم نيط بكتمان ما خلق الله في أرحامهن . وهذا محمل اختلاف المفسرين ، فقال عكرمة والزهري والنخعي : ( ما خلق الله في أرحامهن ) الحيض ، وقال ابن عباس وعمر : الحمل ، وقال مجاهد : الحمل والحَيض ، وهو أظهر ، وقال قتادة : كانت عادة نساء الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد ( أي لئلا يبْقى بين المطلَّقة ومطلِّقها صلة ولا تنازع في الأولاد ) وفي ذلك نزلت ، وهذا يقتضي أن العدة لم تكن موجودة فيهم ، وأما مع مشروعية العدة فلا يتصور كتمان الحمل ؛ لأن الحمل لا يكون إلاّ مع انقطاع الحيض ، وإذ مضت مدة الأقراء تبين أن الحمل من الزوج الجديد .
وقوله : { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } شرط أريد به التهديد دون التقييد ، فهو مستعمل في معنى غير معنى التقييد ، على طريقة المجاز المرسل التمثِيلي ، كما يستعمل الخبر في التحسر والتهديد ، لأنه لا معنى لتقييد نفي الحمل بكونهن مؤمنات ، وإن كان كذلك في نفس الأمر ، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال والحرام الإسلامي ، وإنما المعنى أنهن إن كتمن فهن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ إذ ليس من شأن المؤمنات هذا الكتمان .
وجيء في هذا الشرط بإنْ ، لأنها أصل أدوات الشرط ، ما لم يكن هنالك مقصد لتحقيق حصول الشرط فيؤتى بإذا ، فإذا كان الشرط مفروضاً ، فرضاً لا قصد لتحقيقه ولا لعدمه جيء بإن . وليس لأنْ هنا ، شيء من معنى الشك في حصول الشرط ، ولا تنزيل إيمانهن المحقق منزلة المشكوك ، لأنه لا يستقيم ، خلافاً لما قرره عبد الحكيم .
والمراد بالإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان الكامل ، وهو الإيمان بما جاء به دين الإسلام ، فليس إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر بمراد هنا ؛ إذ لا معنى لربط نفي الحمل في الإسلام بثبوت إيمان أهل الكتاب .
وليس في الآية دليل على تصديق النساء في دعوى الحمل والحيض كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء ، فلا بد من مراعاة أن يكون قولهن مشبهاً ، ومَتَى ارتيب في صدقهن وجب المصير إلى ما هو المحقق ، وإلى قول الأطباء والعارفين .
ولذلك قال مالك : « لو ادعت ذات القروء انقضاء عدتها في مدة شهر من يوم الطلاق لم تصدق ، ولا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوماً مع يمينها » وقال عبد الملك : خمسون يوماً ، وقال ابن العربي : لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر ، لأنه الغالب في المدة التي تحصل فيها ثلاثة قروء ، وجرى به عمل تونس كما نقله ابن ناجي ، وعمل فاس كما نقله السَّجْلَمَاسِي .
وفي الآية دلالة على أن المطلقة الكتابية لا تصدق في قولها إنها انقضت عدتها .
وقوله : { وبعولتهنَّ } . البعولة جمع بعل ، والبعل اسم زوج المرأة . وأصل البعل في كلامهم ، السيد . وهو كلمة ساميَّة قديمة ، فقد سمَّى الكنعانيون ( الفينقيون ) معبودهم بَعْلاً قال تعالى : { أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين } [ الصافات : 125 ] وسمي به الزوج لأنه ملك أمر عصمة زوجه ، ولأن الزوج كان يعتبر مالكاً للمرأة وسيداً لها ، فكان حقيقاً بهذا الاسم ، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام فما بعده من الشرائع ، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف ، فأطلق العرب لفظ الزوج على كلَ من الرجل والمرأة ، اللذين بينهما عصمة نكاح ، وهو إطلاق عادل ؛ لأن الزوج هو الذي يثنى الفرد ، فصارا سواء في الاسم ، وقد عبر القرآن بهذا الاسم في أغلب المواضع ، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله : { وهذا بعلي شيخا } [ هود : 72 ] ، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة ، نحو قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } [ النساء : 128 ] وهاته الآية كذلك ، لأنه لما جعل حق الرجعة للرَّجل جبراً على المرأة ، ذكَّر المرأة بأنه بعلُها قديماً .
وقيل : البعل : الذكر ، وتسمية المعبود بَعْلاً لأنه رمز إلى قوة الذكورة ، ولذلك سمي الشجر الذي لا يسقى بَعْلاً ، وجاء جمعه على وزن فعولة ، وأصله فُعول المطردُ في جمع فَعْل ، لكنه زيدت فيه الهاء لتوهم معنى الجماعة فيه ، ونظيره قولهم : فُحُولة وذُكُورة وكُعُوبة وسُهُولة ، جمع السَّهل ضد الجبل ، وزيادة الهاء على مثله سماعي ؛ لأنها لا تؤذن بمعنى ، غير تأكيد معنى الجمعية بالدلالة على الجماعة .
وضمير { بعولتهن } ، عائد إلى ( المطلقات ) قبله ، وهن المطلقات الرجعيات كما تقدم ، فقد سماهن الله تعالى مطلقات لأن أزواجهن أنشأُوا طلاقهن ، وأَطلق اسم البعولة على المطلقين ، فاقتضى ظاهره أنهم أزواج للمطلقات ، إلاّ أن صدور الطلاق منهم إنشاء لفك العصمة التي كانت بينهم ، وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين ، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم ؛ لقوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] ، أي أمر المراجعة ، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء ، فللمطلقين بحسب هذه الحالة حالة وسَطٌ بين حالة الأزواج وحالة الأجانب ، وعلى اعتبار هذه الحالة الوسط أُوقع عليهم اسم البعولة هنا ، وهو مجاز قرينته واضحة ، وعلاقته اعتبار ما كان ، مثل إطلاق اليتامى في قوله تعالى : { وأتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] .
وقد حمله الجمهور على المجاز ؛ فإنهم اعتبروا المطلقة طلاقاً رجعياً امرأة أجنبية عن المطلق بحسب الطلاق ، ولكن لما كان للمطلق حق المراجعة ، ما دامت المرأة في العدة ، ولو بدون رضاها ، وجب إعمال مقتضى الحالتين ، وهذا قول مالك والشافعي . قال مالك : « لا يجوز للمطلق أن يستمتع بمطلقته الرجعية ، ولا أن يدخل عليها بدون إذن ، ولو وطئها بدون قصدِ مراجعةٍ أَثم ، ولكن لا حد عليه للشبهة ، ووجب استبراؤها من الماء الفاسد ، ولو كانت رابعة لم يكن له تزوج امرأة أخرى ، ما دامت تلك في العدة » .
وإنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته ، ويشكل على قولهم إن عثمان قضى لها بالميراث إذا مات مطلِّقها وهي في العدة ؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف ، بموافقة عليَ ، رواه في « الموطأ » ، فيُدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق ، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث ، فما لم تنقض العدة فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء ، فصار ذلك شكاً في مانع الإرث ، والشك في المانع يبطل إعماله .
وحمل أبو حنيفة والليث بن سعد البعولة على الحقيقة ، فقالا « الزوجية مستمرة بين المطلق الرجعي ومطلَّقته ؛ لأن الله سماهم بعُولة » وسوغا دخول الطلاق عليها ، ولو وطئها فذلك ارتجاع عند أبي حنيفة . وقال به الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى ، ونسب إلى سعيد بن المسيب والحسن والزهري وابن سيرين وعطاء وبعض أصحاب مالك . وأحسب أن هؤلاء قائلون ببقاء الزوجية بين المطلق ومطلقته الرجعية .
و ( أحق ) قيل : هو بمعنى اسم الفاعل مسلوب المفاضلة ، أتى به لإفادة قوة حقهم ، وذلك مما يستعمل فيه صيغة أفعل ، كقوله تعالى : { ولذكر الله أكبر } [ العنكبوت : 45 ] لا سيما إن لم يذكر بعدها مفضل عليه بحرف من ، وقيل : هو تفضيل على بابه ، والمفضل عليه محذوف ، أشار إليه في « الكشاف » ، وقرره التفتازاني بما تحصيله وتبيينه : أن التفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق : هما حق الزوج في الرجعة إن رغب فيها ، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها ، فصار المعنى : وبعولتهن أحق برد المطلقات ، من حق المطلقات بالامتناع وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز .
وقوله : { في ذلك } الإشارة بقوله : { ذلك } إلى التربص بمعنى مدته ، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة ، أي لا بعد ذلك كما هو مفهوم القيد . هذا تقرير معنى الآية ، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة ، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة بل الآية جامعة لأمرين : حكم المراجعة ، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات ، وذلك أن المتفارقين لا بد أن يكون لأحدهما أو لكليهما ، رغبة في الرجوع ، فالله يعلم الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء ، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال ، والمرأة أهل الغضب والإباء .
والرد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { حتى يرددكم عن دينكم } [ البقرة : 217 ] والمراد به هنا الرجوع إلى المعاشرة وهو المراجعة ، وتسمية المراجعة رداً يرجح أن الطلاق قد اعتبر في الشرع قطعاً لعصمة النكاح ، فهو إطلاق حقيقي على قول مالك ، وأما أبو حنيفة ومن وافقوه فتأوَّلوا التعبير بالرد بأن العصمة في مدة العدة سائرة في سبيل الزوال عند انقضاء العدة ، فسميت المراجعة رداً عن هذا السبيل الذي أخذت في سلوكه وهو رد مجازي .
وقوله : { إن أرادوا إصلاحاً } شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح ، وليس هو للتقييد .
لا يجوز أن يكون ضمير { لهن } عائداً إلى أقرب مذكور وهو ( المطلقات ) ، على نسق الضمائر قبله ؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة حتى يكون لهن حقوق وعليهن حقوق ، فتعين أن يكون ضمير { لهن } ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله { بردهن } بقرينة مقابلته بقوله { وللرجال عليهن درجة } . فالمراد بالرجال في قوله : { وللرجال } الأزواج ، كأنه قيل : ولرجالهن عليهن درجة . والرجل إذا أضيف إلى المرأة ، فقيل : رجل فلانة ، كان بمعنى الزوج ، كما يقال للزوجة : امرأة فلان ، قال تعالى : { وامرأته قائمة } [ هود : 71 ] { إلا امرأتك } [ هود : 81 ] .
ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم } [ البقرة : 226 ] بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن ، إذا لم يكن له سبب ، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة ؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة ، حين ذكر طلاقهن بقوله { وإن عزموا الطلاق } [ البقرة : 227 ] ، إلى ذكر المطلقات بتلك المناسبة ، ولما اختتم حكم الطلاق بقوله : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } صار أولئك النساء المطلقات زوجات ، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد ، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم ، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر ، فعادت إلى أحكام الزوجات بأسلوب عجيب والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولاً عليهن ، وتظاهراً بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة ، فناسب أن يذكَّروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال .
وفي الآية احتباك ، فالتقدير : ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن ، فحذف من الأول لدلالة الآخر ، وبالعكس . وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال ، وتشبيهه بما للرجال على النساء ؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة ، مسلمة من أقدم عصور البشر ، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاوناً بها ، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها ، حتى جاء الإسلام فأقامها .
وأعظم ما أُسِّست به هو ما جمعته هذه الآية .
وتقديم الظرف للاهتمام بالخبر ؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون ، فقدم ليصغى السامعون إلى المسند إليه ، بخلاف ما لو أُخر فقيل : ومثل الذي عليهن لهن بالمعروف ، وفي هذا إعلان لحقوق النساء ، وإصداع بها وإشادة بذكرها ، ومثل ذلك من شأنه أن يُتلقى بالاستغراب ، فلذلك كان محل الاهتمام . ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية ، كانت زوجة أم غيرها ، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة وتنافس عند الرغبة ، ومظهر استخفاف وقلة إنصاف ، عند الغضب ، فأما الأول فناشىء عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة وصدق المحبة ، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل ، ومحل تنافسه ، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم ، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة قال شاعرهم وهو مُرَّةُ بن مَحْكانَ السْعدي :
يا ربَّةَ البيتِ قومي غيرَ صاغرةٍ *** ضُمِّي إليكِ رحالَ القَوْم والقِرَبا
فسماها ربة البيت وخاطبها خطاب المتلطف حين أمَرَها فأعقب الأمر بقوله غير صاغرة .
وأما الثاني فالرجل مع ذلك يرى الزوجة مجعولة لخدمته فكان إذا غاضبها أو ناشزته ، ربما أشتد معها في خشونة المعاملة ، وإذا تخالف رأياهما أرغمها على متابعته ، بحق أو بدونه ، وكان شأن العرب في هذين المظهرين متفاوتاً بحسب تفاوتهم في الحضارة والبداوة ، وتفاوت أفرادهم في الكياسة والجلافه ، وتفاوت حال نسائهم في الاستسلام والإباء والشرف وخلافه .
روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : " كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم فطفِق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار فصخبتُ علَى امرأتي فراجعتْني فأنكرتُ أن تراجعني قالت : ولِمَ تنكرُ أَن أراجعك فوالله إن أزواج النبيء ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فراعني ذلك وقلت : قد خابت من فعلت ذلك منهن ثم جمعت عليَّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها : أَيْ حفصةُ أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم فقلت : قد خبتِ وخسرتِ " الحديث .
وفي رواية عن ابن عباس عنه « كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً فلما جاء الإسلام ، وذكَرَهُن الله رأَينا لهن بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا » ويتعين أن يكون هذا الكلام صدراً لما في الرواية الأخرى وهو قوله : « كنا معشر قريش نغلب النساء » إلى آخره ، فدل على أن أهل مكة كانوا أشد من أهل المدينة في معاملة النساء . وأحسب أن سبب ذلك أن أهل المدينة كانوا من أزد اليمن ، واليمن أقدم بلاد العرب حضارة ، فكانت فيهم رقة زائدة . وفي الحديث " جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً ، الإيمانُ يَمَانٍ والحكمةُ يَمَانية "
وقد سمى عمر بن الخطاب ذلك أدباً فقال : فطفِق نساؤنا يأخذْن من أدب الأنصار .
وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها إذا حلت له ، وإن شاءوا ، زوجوها بمن شاؤا وإن شاءوا لم يزوجوها فبقيت بينهم ، فهم أحق بذلك فنزلت آية : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء : 19 ] .
وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مع أصحابه ، وآخى بين المهاجرين والأنصار ، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري ، فعَرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله وقال له « انظر أي زوجتيَّ شئتَ أنْزِلْ لك عنها » فقال عبد الرحمن « بارك الله لك في أهلك ومالك » الحديث . فلما جاء الإسلام بالإصلاح ، كان من جملة ما أصلحه من أحوال البشر كافة ، ضبط حقوق الزوجين بوجه لم يبق معه مدخل للهضيمة حتى الأشياءُ التي قد يخفى أمرها قد جُعل لهَا التحكيم قال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريداً إصلاحاً يوفق الله بينهما } [ النساء : 35 ] وهذا لم يكن للشرائع عهد بمثله .
وأول إعلام هذا العدل بين الزوجين في الحقوق ، كان بهاته الآية العظيمة ، فكانت هذه الآية من أول ما أنزل في الإسلام .
والمثل أصله النظير والمشابه ، كالشبه والمثل ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] ، وقد يكون الشيء مثلاً لشيء في جميع صفاته وقد يكون مثلاً له في بعض صفاته . وهي وجه الشبه . فقد يكون وجه المماثلة ظاهراً فلا يحتاج إلى بيانه ، وقد يكون خفياً فيحتاج إلى بيانه ، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق : أجناساً أو أنواعاً أو أشخاصاً ؛ لأن مقتضى الخلقة ، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل ، ومقتضى الشريعة ، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة . فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال ، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة ، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها ، وأن تجهز طعامه ، أنه يجب عليه مثل ذلك ، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال ، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده ، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه ، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته ، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها ، وعلى هذا القياس فإذا تأتَّت المماثلة الكاملة فتُشْرَعَ ، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها ، بدليل ما رتب على حكم النشوز ، قال تعالى : { والتي تخافون نشوزهن } [ النساء : 34 ] وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } [ النساء : 19 ] وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج ، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } [ النور : 30 ] ثم قال : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } [ النور : 30 ] الآية { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم } [ المؤمنون : 5 6 ] إلاّ إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر ، يدخل تحت قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة والمماثلة في بعث الحكمين ، والمماثلة في الرعاية ، ففي الحديث : الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها ، والمماثلة في التشاور في الرضاع ، قال تعالى : { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور } [ البقرة : 233 ] { وأتمروا بينكم بمعروف } [ الطلاق : 6 ] .
وتفاصيل هاته المماثلة ، بالعين أو بالغاية ، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة ، ومرجعها إلى نفي الإضرار ، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة ، وقد أومأ إليها قوله تعالى : { بالمعروف } أي لهن حق متلبساً بالمعروف ، غير المنكر ، من مقتضى الفطرة ، والآداب ، والمصالح ، ونفي الإضرار ، ومتابعة الشرع . وكلها مجال أنظار المجتهدين . ولم أر في كتب فروع المذاهب تبويباً لأبواب تجمع حقوق الزوجين . وفي « سنن أبي داود » ، و« سنن ابن ماجه » ، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة ، والآخر لحقوق الزوج على الرجل ، باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولى للمرأة فهي ولية كما يقولون ، وكانوا لا يدخرونها تربية ، وإقامة وشفقة ، وإحساناً ، واختيار مصير ، عند إرادة تزويجها ، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء ، بيد أنهم كانوا مع ذلك لا يرون لها حقاً في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها ، ولا بطلب ما لها منهم ، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن } [ النساء : 127 ] وقال : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } [ البقرة : 232 ] فحدد الله لمعاملات النساء حدوداً ، وشرع لهن أحكاماً ، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة ، ثم فصلتها الشريعة تفصيلاً ، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام أو الفضائل ، وعطف النساء على الرجال .
وقوله : { بالمعروف } الباء للملابسة ، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة ، المجردة من الانحياز إلى الأهواء ، أو العادات أو التعاليم الضالة ، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصاً أو قياساً ، أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة ، التي ليس في الشرع ما يعارضها . والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابساً ذلك دائماً للوجه غير المنكر شرعاً وعقلاً ، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة ، وهي مجال لأنظار المجتهدين في مختلف العصور والأقطار . فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح ، قد سلبها حق المماثلة للابن ، فدخل ذلك تحت الدرجة ، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلاّ برضاها قد أثبت لها حق المماثلة للذكر ، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلثها إلا بإذن زوجها قد سلبها حق المماثلة للرجل ، وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل ، وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها إذا كانت به عاهة قد جعل لها حق المماثلة وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق . وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر . وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين ، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة ، أو من تفرقة ، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى : { بالمعروف } قطعاً أو ظناً فكونوا من ذلك بمحل التيقظ ، وخُذوا بالمعنى دون التلفظ .
ودين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة ، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني ، والمربية الأولى ، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها ، والتي تصادف عقولاً لم تمسها وسائل الشر ، وقلوباً لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان . فإذا كانت تلك التربية خيراً ، وصدقاً ، وصواباً ، وحقاً ، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة ، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة ، فهيأت لأمثالها ، من خواطر الخير ، منزلاً رحباً ، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حباً . ودين الإسلام دين تشريع ونظام ، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة ، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام ، إلى الارتقاء وسيادة العالم .
وقوله : { وللرجال عليهن درجة } إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } مطردة ، ولزيادة بيان المراد من قوله { بالمعروف } ، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل ، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية .
وقوله : { للرجال } خبر عن ( درجة ) ، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة ، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض } [ النساء : 34 ] وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق ، توهماً من قوله آنفاً : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص ، لإبطال إيثارهم المطلق ، الذي كان متبعاً في الجاهلية .
والرجال جمع رجل ، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة ، وأما قولهم : امرأة رجلة الرَّأي ، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل .
والدرجة ما يرتقى عليه في سلم أو نحوه ، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء ومهل ، يقال : درج الصبي ، إذا ابتدأ في المشي ، وهي هنا استعارة للرفعة المكنَّى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية ، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع ، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد ، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع ، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل : دركة ، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه .
والعبرة بالمقصد الأول ، فإن كان المقصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة ، ولا عبرة بنزول الصاعد وصعود النازل .
وهذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال من زيادة القوة العقلية والبدنية ، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة ، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى ، وأقوى جسماً وعزماً ، وعن إرادته يكون الصدر ، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف ، وتفوق بعض أفراد الآخر نادراً ، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية ، لأن واضع الأمرين واحد .
وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم : من الإذن بتعدد الزوجة للرجل ، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى ، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية ، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر ، ومِن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة ، والمراجعة في العدة كذلك ، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل ، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شؤون المنزل ، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه ، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع ، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعاً عند الخلاف ، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة ، ولأنه مظنة الصواب غالباً ، ولذلك إذا لم يمكن التراجع ، واشتد بين الزوجين النزاع ، لزم تدخل القضاء في شأنهما ، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية { وإن خفتم شقاق بينهما } [ النساء : 35 ] . g
ويؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج بلحن الخطاب ، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما أسست الآية حكم المساواة والتفضيل ، بين الرجال والنساء الأزواج إبطالاً لعمل الجاهلية ، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء ، كالجهاد وذلك مما اقتضته القوة الجسدية ، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة ، والتفضيل في باب العدالة ، وولاية النكاح والرعاية ، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية ، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها ، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال ، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه ، وإنما عدت هذه درجة ، مع أن للنساء أحكاماً لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة ، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل .
فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين ، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعياً لأحوال طبقات الناس ، مع احتمال أن يكون المراد من قوله : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } [ النساء : 34 ] أن ذلك يجريه ولاة الأمور ، ولنا فيه نظر عند ما نصل إليه إن شاء الله تعالى .
وقوله : { والله عزيز حكيم } العزيز : القوى ، لأن العزة في كلام العرب القوة { لَيُخْرِجَنَّ الأعز منها الأذل } [ المنافقون : 8 ] وقال شاعرهم :
والحكيم : المتقن الأمور في وضعها ، من الحكمة كما تقدم .
والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين ، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال ، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظاً ، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء ، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرهاً ، إن أبَوْا ، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلماً لعزتهم ، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم ، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد ، ولا يتقي أحداً ، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس ، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع ، والأمر الواجب امتثاله ، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا .