قوله : { والمطلقات } يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول ، ثم خصص بقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] فوجب بناء العام على الخاص ، وخرجت من هذا العموم المطلَّقة قبل الدخول ، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى : { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] والتربص : الانتظار ، قيل : هو خبر في معنى الأمر أي : ليتربصن قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه ، وزاده تأكيداً وقوعه خبراً للمبتدأ . قال ابن العربي : وهذا باطل ، وإنما هو : خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص ، فليس ذلك من الشرع ، ولا يلزم من ذلك ، وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره . والقروء : جمع قرء . وروي عن نافع أنه قرأ : «قرو » بتشديد الواو . وقرأه الجمهور بالهمز . وقرأ الحسن بفتح القاف ، وسكون الراء ، والتنوين . قال الأصمعي : الواحد قرء بضم القاف . وقال أبو زيد بالفتح : وكلاهما قال : أقرأت المرأة : حاضت ، وأقرأت : طهرت . وقال الأخفش : أقرأت المرأة : إذا صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت : قرأت بلا ألف . وقال أبو عمرو بن العلاء من العرب من يسمي الحيض قرءاً ، ومنهم من يسمي الطهر قرءاً ، ومنهم من يجمعهما جميعاً ، فيسمي الحيض مع الطهر قرءاً ، وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل : الوقت ؛ يقال : هبت الرياح لقرئها ، ولقارئها : أي : لوقتها ، ومنه قول الشاعر :
كَرهتُ العَقْر عقر بني شَليل *** إذَا هَبَّتْ لقارئها الرياحُ
فيقال للحيض : قرء ، وللطهر : قرء ؛ لأن كل واحد منهما له وقت معلوم . وقد أطلقته العرب تارة على الأطهار ، وتارة على الحيض ، فمن إطلاقه على الأطهار قول الأعشى :
أفِي كلٍ عَامٍ أنتَ جَاشِمُ غَزْوةٍ *** تَشُدّ لأقصَاهَا عزيم عَزَائكا
مورثة مَالاً وفي الحي رفعة *** لِما ضَاعَ فِيها من قُرُوءِ نِسائكا
أي أطهارهن ، ومن إطلاقه على الحيض قول الشاعر :
يَا ربَّ ذي حِنْق عليّ قَارضٍ *** له قُرُوّ كقُروُّ الحائِض
يعني أنه طعنه ، فكان له دم كدم الحائض . وقال قوم : هو مأخوذ من قري الماء في الحوض ، وهو جمعه ، ومنه القرآن لاجتماع المعاني فيه . قال عمرو بن كلثوم :
ذِراعَي عَيْطَلٍ أدْمَاء بِكرٍ *** هِجَانِ اللونِ لِم تَقْرَأ جنينا
أي : لم تجمعه في بطنها . والحاصل أن القروء في لغة العرب مشترك بين الحيض ، والطهر ، ولأجل هذا الاشتراك ، اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية ، فقال أهل الكوفة : هي الحيض ، وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والسدي ، وأحمد بن حنبل . وقال أهل الحجاز : هي : الأطهار ، وهو قول عائشة ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، والشافعي .
واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت ، فصار معنى الآية عند الجميع : والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات ، فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود ، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها ، فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم : «دعي الصلاة أيام أقرائك » وبقوله صلى الله عليه وسلم : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدّتها حيضتان » وبأن المقصود من العدّة استبراء الرحم ، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر . واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق ، وقت الطهر ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر : «مُرْه فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » وذلك ؛ لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء . قال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركنا أحداً من فقهائنا إلا يقول بأن الأقراء هي : الأطهار ، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ، ولو ساعة ، ولو لحظة ، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدّة انتهى .
وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعاً . أما قول الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «دعي الصلاة أيام أقرائك » فغاية ما في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأقراء على الحيض ، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك ، فإنه يطلق تارة على هذا ، وتارة على هذا ، وإنما النزاع في الأقراء المذكورة في هذه الآية ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأمة : «وعدّتها حيضتان » فهو حديث أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم وصححه ، من حديث عائشة مرفوعاً . وأخرجه ابن ماجه ، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً أيضاً ، ودلالته على ما قاله الأولون قوية . وأما قولهم : إن المقصود من العدّة استبراء الرحم ، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر ، فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدّة شيء من الحيض على فرض تفسير الأقراء بالأطهار ، وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض ، كما هي مشتملة على الأطهار ، وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } يصير ذلك محتملاً ، ولا تقوم الحجة بمحتمل . وأما استدلالهم بقوله لعمر : «مُرْه فليراجعها » الحديث ، فهو في الصحيح ، ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه ، ويمكن أن يقال إنها تنقضي العدّة بثلاثة أطهار ، أو بثلاث حِيَض ، ولا مانع من ذلك ، فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه ، وبذلك يجمع بين الأدلة ، ويرتفع الخلاف ، ويندفع النزاع .
وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله : قروء ، وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة . وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك ، فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية .
قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } قيل : المراد به : الحيض ، وقيل : الحمل . وقيل كلاهما ، ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج ، وإذهاب حقه ؛ فإذا قالت المرأة : حضت ، وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع ؛ وإذا قالت لم تحض ، وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه ، فاضرّت به ، وكذلك الحمل ربما تكتمه التقطع حقه من الارتجاع ، وربما تدّعيه لتوجب عليه النفقة ، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج . وقد اختلفت الأقوال في المدّة التي تصدَّق فيها المرأة إذا ادّعت انقضاء عدّتها . وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الأخر } فيه ، وعيد شديد للكاتمات ، وبيان أن من كتمت ذلك منهنّ لم تستحق اسم الإيمان . والبعولة جمع بعل ، وهو الزوج ، سمي بعلاً لعلوّه على الزوجة ؛ لأنهم يطلقونه على الرب ، ومنه قوله : تعالى : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } [ الصافات : 125 ] أي : رباً . ويقال : بعول ، وبعولة ، كما يقال في جمع الذكر ذكور ، وذكورة ، وهذه التاء لتأنيث الجمع ، وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع ، والبعولة أيضاً تكون مصدراً من بعل الرجل يبعل ، مثل منع يمنع . أي : صار بعلاً . وقوله : { أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } أي : برجعتهنّ ، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها ، فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } لأنه يعم المطلقات ، وغيرهنّ . وقوله : { فِي ذلك } يعني في مدة التربص ، فإن انقضت مدّة التربص ، فهي أحق بنفسها ، ولا تحلّ له إلا بنكاح مستأنف بوليّ ، وشهود ، ومهر جديد ، ولا خلاف في ذلك ، والرجعة تكون باللفظ ، وتكون بالوطء ، ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف . وقوله : { إِنْ أَرَادُوا إصلاحا } أي : بالمراجعة ، أي : إصلاح حاله معها ، وحالها معه ، فإن قصد الإضرار بها ، فهي محرّمة لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لتعْتَدُوا } قيل : وإذا قصد بالرجعة الضرار ، فهي صحيحة ، وإن ارتكب بذلك محرّماً ، وظلم نفسه ، وعلى هذا ، فيكون الشرط المذكور في الآية لحث للأزواج على قصد الصلاح ، والزجر لهم عن قصد الضرار ، وليس المراد به جعل قصد الإصلاح شرطاً لصحة الرجعة . قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف } أي : لهنّ من حقوق الزوجية على الرجال بمثل ما للرجال عليهنّ . فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم . وهي : كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهنّ يفعلنه ؛ لأوزاجهنّ من طاعة ، وتزين ، وتحبب ، ونحو ذلك .
قوله : { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : منزلة ليست لهنّ ، وهو قيامه عليها في الإنفاق ، وكونه من أهل الجهاد ، والعقل ، والقوّة ، وله من الميراث أكثر مما لها ، وكونه يجب عليها امتثال أمره ، والوقوف عند رضاه ، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهنّ خلقن من الرجال لما ثبت أن حوّاء خلقت من ضلع آدم .
وقد أخرج أبو داود ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طلِّقْتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدّة ، فأنزل الله حين طلقت العدّة للطلاق ، فقال : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } الآية . وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن المنذر عن ابن عباس : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء } ثم قال : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] فنسخ ، وقال : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] . وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني ، والبيهقي من طرق عن عائشة أنها قالت : الأقراء : الأطهار . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت مثله . وأخرج المذكورون ، عن عمرو بن دينار ، قال : الأقراء : الحيض عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج البيهقي ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { ثلاثة قُرُوء } قال : ثلاث حيض .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } قال : كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر ، فنهاهنّ الله عن ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر في الآية قال : الحمل ، والحيض ، وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } يقول : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة ، أو تطليقتين ، وهي حامل ، فهو أحقّ برجعتها ما لم تضع حملها ، وهو قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن مجاهد في قوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك } قال : في العدّة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة مثله ، وزاد ما لم يطلقها ثلاثاً . وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ } قال : إذا أطعن الله ، وأطعن أزواجهنّ ، فعليه أن يحسن صحبتها ، ويكف عنها أذاه ، وينفق عليها من سعته .
وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، أما حقكم على نسائكم أن لا يوطئن ، فُرُشكم من تكرهون ، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهنّ ، وطعامهنّ " وصححه الترمذي . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري : «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تهجر إلا في البيت " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } قال : فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد ، وفضل ميراثه على ميراثها ، وكل ما فضل به عليها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في الآية قال : يطلقها ، وليس لها من الأمر شيء . وأخرجا عن زيد بن أسلم قال : الإمارة .