{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } الآية ، قال مقاتل بن حيان والكلبي : كان الرجل أول الإسلام إذا طلّق امرأته ثلاثاً وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما لم تضع ولدها إلى أن نسخ الله ذلك بقوله { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } وقوله { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } الآية ، وطلّق إسماعيل بن عبد الله الغفاري امرأته قتيلة وهي حبلى .
وقال مقاتل : هو مالك بن الأشدق رجل من أهل الطائف ، قالوا جميعاً : ولم يشعر الرجل بذلك ولم تخبره بذلك ، فلمّا علم بحبلها راجعها وردّها إلى بيته ، فولدت وماتت ومات ولدها ، وفيها أنزل الله تعالى هذه الآية { وَالْمُطَلَّقَاتُ } أي المخلّيات من حبال أزواجهن وهو من قولهم : أطلقت الشيء من يدي وطلقته إذا خلّيته ، إلاّ أنهم لكثرة استعمالهم اللفظين فرّقوا بينهما ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات وبذلك أنزل القرآن { يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } [ الطلاق : 1 ] والاسم منه الطلاق ، ويقال : طلق الرجل المرأة وطلّقت وطلقت معاً ، وأصله من قولهم : انطلق الرجل إذا مضى غير ممنوع ، ويقال للشوط الذي يجريه الفرس وغيره من غير أن يمنع طلق . { يَتَرَبَّصْنَ } ينتظرن بأنفسهن ولا يتزوجن ثلاثة قروء ، جمع قُرء ، مثل قرع وجمعه القليل قروء والجمع الكثير أقرُاء وقرؤ ، واختلف الفقهاء في القروء ، فقال قوم : هي الحيض ، وهو قول علي وعمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري ومجاهد ومقاتل بن حيّان ، ومذهب سفيان وأبي حنيفة وأهل الكوفة ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة : " دعي الصلاة أيام أقرائك " والصلاة إنما تترك في حال الحيض ، يقول الراجز أنشده تغلب عن ابن الأعرابي :له قروء كقروء الحائض
يعني أنّ عداوته تهيج في أوقات معلومة كما أن المرأة تحيض بأوقات معلومة ، فمَنْ قال بهذا القول قال : لا تحلّ المرأة للأزواج ولا تخرج من عدّتها ما لم تنقضِ الحيضة الثالثة ، يدل عليه ما روى الزهري عن ابن المسيّب أن علياً قال في الرجل يطلق امرأته واحدة أو ثنتين : ( لا ) يحل لزوجها الرجعة إليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلّ لها الصلاة .
وقال آخرون : هي الأطهار وهو قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة ومذهب مالك والشافعي وأهل المدينة ، واحتجوا بقوله { يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمّا طلّق ابن عمر امرأة وهي حائض لعمر : مُرْه فلْيراجعها ، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك " ، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله عزّ وجلّ { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ } [ الطلاق : 1 ] فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ العدّة الأطهار من الحيض وقرأ { فَطَلِّقُوهُنَّ } لتتم عدتهنّ ، وهو أن يطلقها طاهراً لأنها حينئذ تستقبل عدّتها ، ولو طلقت أيضاً لم تكن مستقبلة عدّتها إلاّ بعد الحيض ، ويدلّ على تلك القروء والأطهار قول الشاعر وهو الأعشى :
وفي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لأقصاها عزيم غزائكا
مورثة مالاً وفي الحي رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والقُرء في هذا البيت الطهر ، لأنّه خرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فأضاع اقراءهنّ أي أطهارهن ، ومن قال بهذا القول قال : إذا حاضت المرأة الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلّت للزواج ، يدلّ عليه ما روى الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة ، قالت : " إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلّت للأزواج ، قالت عمرة : وكانت عائشة تقول : القرء : الطهر ليس الحيض " .
ابن شهاب قال : سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحداً من فقهائنا إلاّ وهو يقول هذا ، يريد قول عائشة الأقراء الأطهار ، وإنما وقع هذا الاختلاف لأن القُرء في اللغة من الأضداد يصلح للمعنيين جميعاً ، يقول أقرأت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت ، فهي تقرى ، واختلفوا في أصلها ، فقال أبو عمر وأبو عبيدة هو وقت مجيء الشيء وذهابه ، يقال : رجع فلان لقُرئه وقاريه أي لوقته الذي يرجع فيه ، وهذا قاري الرياح أي وقت هبوبها .
كرهت العقر عقر بني شليل *** إذا هبّت لقارئها الرياح
أي لوقتها ، ويقال : أقرأت النجوم إذا طلعت ، وأقرأت إذا أفلت .
إذا ما الثريا وقد أقرأت *** أحسُّ السما كان منها أُفولا
فالقرء للوجهين ، لأن الحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت ، وقيل : هو من ( قرء الماء في الحوض ، وهو جمعه ) ، قال عمرو بن كلثوم :
ذراعي عيطل إذماء بكر *** هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تحمل ، ولم تضم في رحمها ، وإنما تقول العرب : ما قرأت الناقة بلا قرط أي لا تضمّ رحمها على ولد ، ومنه قولهم : قرأت القرآن أي نطقت به مجموعاً ، هذا اختيار الزجّاج .
قال : ومنه قريت الماء في المقراة ، ترك همزها والأصل فيه الهمز ، فالقرء احتباس الدم واجتماعه وهو يكون في حال الطهر والحيض جميعاً ، إلاّ أن الترجيح للطهر لأنّه يجمع الدم ويحبسه ، والحيض يرخّيه ويرسله والله أعلم .
اعلم أن لفظها خبر ومعناها أمر ، كقوله { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } وأمثاله ، والعدّة على ضربين : عدّة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها ، فعدّة المطلقة على ثلاثة أضرب : عدة الحائض ثلاثة قروء ، وعدّة الحامل أن تضع حملها ، وعدّة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي آيست ثلاثة أشهر ، وعدّة المتوفى عنها زوجها ضربان : إن كانت حاملا فعدّتها أن تضع حملها وإلاّ فعدّتها أربعة أشهر وعشرة ، وعدّة الإماء فيما له نصف ومن الأقراء قُرآن لأنها لا نصف ولا عدّة على متن لم يدخل بها إذا توفي عنها زوجها ، فعدّتها أربعة أشهر وعشراً . { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } قال عكرمة وإبراهيم : يعني الحيض ، وهو أن تعتدّ المرأة فيريد الرجل أن يراجعها فتقول : إنّي قد حضت الثالثة . ابن عباس وقتادة ومقاتل : يعني الحمل في الولد ، فمعنى الآية لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحمل ليبطلن حق الزوج في الرجعة والولد ، فإنّ المرأة أمينة على فرجها . { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ } أزواجهنّ ، وهو جمع بعل ، كالفحولة والذكورة والحزولة والخيوطة ، ويقال : تبعّلت المرأة إذا تزوجت ، ومنه قيل للجماع بعال ، وإنما سمي الزوج بعلا لقيامه بأُمور زوجته ، وأصل البعل السيّد والمالك ، قال الله تعالى { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } [ الصافات : 125 ] وقرأ مسلم بن محارب { وَبُعُولَتُهُنَّ } بإسكان التاء لكثرة الحركات ، والاتباع أفصح وأحسن وأوفق وأولى . { أَحَقُّ } أولى { بِرَدِّهِنَّ } أي برجعتهن { فِي ذَلِكَ } أي في حال العدّة { إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً } لا إضراراً ، وذلك إن الرجل إذا أراد الإضرار بامرأته طلّقها واحدة وتركها حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها ، ثم تركها مدّة ، ثم طلّقها أُخرى وتركها كما فعل في الأولى ، ثم راجعها فتركها مدّة ثم طلقها { وَلَهُنَّ } أي وللنساء على أزواجهنّ { مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ } من الحق .
يُروى أن امرأة معاذ قالت : " يا رسول الله ما حق الزوجة على زوجها ؟ قال : أن لا يضرب وجهها ، وأن لا يقبحها ، وأن يطعمها مما يأكل ، ويلبسها مما يلبس ولا يهجرها " .
المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان لايملكنّ لأنفسهن شيئاً " " إنما اتخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله " .
وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" خيار الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم ، وخير النساء من أمتي خيرهنّ لأزواجهنّ ، يرفع لكل امرأة منهنّ كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين ، ولفضل إحداهنّ على الحور العين كفضل محمّد على أدنى رجل منكم ، وخير النساء من أمتي من تأتي مسيرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية الله عزّ وجلّ ، وخير الرجال من أُمتي من يلطف بأهله لطف الوالدة بولدها ، ُكتب لكل رجل منهم في كل يوم وليلة أجر مائة شهيد قتلوا في سبيل الله محتسبين صابرين " .
فقال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : " يا رسول الله فكيف يكون للمرأة أجر ألف شهيد وللرجل مائة شهيد ؟ قال : أوما علمت أن المرأة أعظم أجراً من الرجل ، وأفضل ثواباً ، وأنّ الله عزّ وجلّ لَيرفع الرجل في الجنة درجات فوق درجاته برضا زوجته عنه في الدنيا ودعائها له ؟ أوما علمت أنّ أعظم وزر بعد الشرك بالله المرأة إذا غشت زوجها ؟
ألا فاتقوا الله في الضعيفين ، فإنّ الله سائلكم عنهما : اليتيم والمرأة ، فمن أحسن إليهما فقد بلغ إلى الله ورضوانه ، ومن أساء إليهما فقد استوجب من الله سخطه ، حق الزوج على المرأة كحقّي عليكم ، فمن ضيّع حقّي فقد ضيّع حق الله ، ومن ضيّع حق الله فقد باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " . { بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } في الفضل .
قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر ، وأنفق عليها من المال ، وقيل : بالعقل ، وقيل : بالميراث ، وقيل : بالدرجة ، قال قتادة : بالجهاد . عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر بن عبد الله ، قال : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه إذ أقبلت امرأة حتى قامت على رأسه ، ثم قالت : السلام عليك يا رسول الله ، أنا وافدة النساء إليك ، ليست من امرأة [ سمعت بمخرجي ] إليك إلا أعجبها ذلك ، يا رسول الله : إن الله ربّ الرجال وربّ النساء ، وآدم أب الرجال وأب النساء ، وحواء أم الرجال وأم النساء ، فالرجال إذا خرجوا في سبيل الله وقتلوا فأحياء عند ربهم يرزقون ، وإذا خرجوا فلهم من الأمر ما قد علمت ، ونحن [ نحبس ] عليهم ونخدمهم فهل لنا من الأجر شيء ؟ قال : نعم ، اقرأي النساء السلام وقولي لهنّ : إنّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ، وقليل منكنّ يفعلهُ " .
ثابت عن أنس ، قال : جئن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله ، فما لنا عمل بعدك به عمل في سبيل الله .
بكر بن عبد الله المزني عن عمران بن الحصين قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد ؟ قال : «نعم ، جهادهن الغيرة ، يجاهدن أنفسهن فإنْ صبرن فهنّ مجاهدات ، وإن صبرن فهنّ مرابطات ولهنّ أجران اثنان " .
وقيل : بالطلاق والرجعة ، وقيل : بالشهادة ، وقيل : بقوة العبادة ، وقال سفيان وزيد بن أسلم : بالإمارة . وقال القتيبي : معناه : وللرجال عليهنّ درجة أي فضيلة للحق . { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }