قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " والمطلقات " لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق . وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قول الله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " الآية ، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها ، وإن طلقها ثلاثا ) ، فنسخ ذلك وقال : " الطلاق مرتان " الآية . والمطلقات لفظ عموم ، والمراد به الخصوص في المدخول بهن ، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية " الأحزاب " : " فما لكم عليهن من عدة تعتدونها " {[2075]} [ الأحزاب : 49 ] على ما يأتي . وكذلك الحامل بقوله : " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " {[2076]} [ الطلاق : 4 ] . والمقصود من الأقراء الاستبراء ، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة . وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي . وقال قوم : إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن ، وهو ضعيف ، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة ، وهو عرف النساء وعليه معظمهن .
الثانية : قوله تعالى : " يتربصن " التربص الانتظار ، على ما قدمناه . وهذا خبر والمراد الأمر ، كقوله تعالى : " والوالدات يرضعن أولادهن " {[2077]} [ البقرة : 233 ] وجمع رجل عليه ثيابه ، وحسبك درهم ، أي اكتف بدرهم ، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري . ابن العربي : وهذا باطل ، وإنما هو خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع ، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره . وقيل ، معناه ليتربصن ، فحذف اللام .
الثالثة : قرأ جمهور الناس " قروء " على وزن فعول ، اللام همزة . ويروى عن نافع " قرو " بكسر الواو وشدها من غير همز . وقرأ الحسن " قرء " بفتح القاف وسكون الراء والتنوين . وقروء جمع أقرؤ وأقراء ، والواحد قرء بضم القاف ، قال الأصمعي . وقال أبو زيد : " قرء " بفتح القاف ، وكلاهما قال : أقرأت المرأة إذا حاضت ، فهي مقرئ . وأقرأت طهرت . وقال الأخفش : أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت : قرأت ، بلا ألف . يقال : أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين . والقرء : انقطاع الحيض{[2078]} . وقال بعضهم : ما بين الحيضتين وأقرأت حاجتك : دنت ، عن الجوهري . وقال أبو عمرو بن العلاء : من العرب من يسمي الحيض قرءا ، ومنهم من يسمي الطهر قرءا ، ومنهم من يجمعهما جميعا ، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا ، ذكره النحاس .
الرابعة : واختلف العلماء في الأقراء ، فقال أهل الكوفة : هي الحيض ، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي . وقال أهل الحجاز : هي الأطهار ، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي . فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك ، لاجتماع الدم في الرحم ، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن ، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت ، يقال : هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها ، قال الشاعر{[2079]} :
كرهت العَقْرعقر بني شَلِيلٍ{[2080]} *** إذا هَبَّتْ لقارئها الرياح
فقيل للحيض : وقت ، وللطهر وقت ، لأنهما يرجعان لوقت معلوم ، وقال الأعشى في الأطهار :
أفي كل عام أنت جاشِمُ غزوةٍ *** تَشُدُّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورِّثَةٍ عزا{[2081]} وفي الحي رفعةً *** لِما ضاع فيها من قُرُوءِ نسائكا
يا رب ذي ضغن عليّ فارض *** له قروء كقروء الحائض
يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض . وقال قوم : هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض . وهو جمعه ، ومنه القرآن لاجتماع المعاني . ويقال لاجتماع حروفه ، ويقال : ما قرأت الناقة سلى قط ، أي لم تجمع{[2082]} في جوفها ، وقال عمرو بن كلثوم :
ذراعَيْ عَيْطَلٍ أدماءَ بكر *** هِجَانِ اللون لم تَقْرأْ جنينا
فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض ، والجسم يجمعه وقت الطهر . قال أبو عمر بن عبدالبر : قول من قال : إن القرء مأخوذ من قولهم : قريت الماء في الحوض ليس بشيء ؛ لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز .
قلت : هذا صحيح بنقل أهل اللغة : الجوهري وغيره . واسم ذلك الماء قرى ( بكسر القاف مقصور ) . وقيل : القرء ، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر ، وعلى هذا قال الشافعي في قول : القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض ، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا . وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا ، ويكون معنى قوله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " . أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات ، والمطلقة متصفة بحالتين فقط ، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض ، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام ، ودلالته على الطهر والحيض جميعا ، فيصير الاسم مشتركا . ويقال : إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا ، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به ، وهو الطلاق للعدة ، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر ، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال ، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيا فتقدير الكلام : فعدتهن ثلاثة انتقالات ، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق ، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا ؛ لأن اللغة لا تدل عليه ، ولكن عرفنا بدليل آخر ، إن الله تعالى لم يرد الانتقال من حيض إلى طهر ، فإذا خرج أحدهما عن أن يكون مرادا بقي الآخر وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا ، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات ، أولها الطهر ، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر ، ولا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما . قال الكيا الطبري : وهذا نظر{[2083]} دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي ، ويمكن أن نذكر في ذلك سرا لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة ، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم ، فإن الحامل لا تحيض في الغالب فبحيضها علم براءة رحمها . والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه ، فان الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها ، وإذا تمادى أمد الحمل{[2084]} وقوي الولد انقطع دمها ، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر ، وقد مدحت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الشاعر{[2085]} :
وَمُبَرَّأٍ من كل غُبَّرِ حيضةٍ *** وفسادِ مرضعة وداءٍ مُغْيَل
يعني أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها . فهذا ما للعلماء وأهل اللسان في تأويل القرء . وقالوا : قرأت المرأة إذا حاضت أو طهرت . وقرأت أيضا إذا حملت . واتفقوا على أن القرء الوقت ، فإذا قلت : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات ، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود ، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها ، فدليلنا قول الله تعالى : " فطلقوهن لعدتهن " {[2086]} [ الطلاق : 1 ] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة ، فإنه قال : " فطلقوهن " يعني وقتا تعتد به ، ثم قال تعالى : " وأحصوا العدة " . يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه ، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : ( مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ) . أخرجه مسلم وغيره . وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة ، وهو الذي تطلق فيه النساء . ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض ، ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر ، فكان ذلك أولى . قال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في ( أن الأقراء هي الأطهار ) . فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة ، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة . فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء ، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر . وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها : إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر . قال أبو عمر : لا أعلم أحدا ممن قال : الأقراء الأطهار يقول هذا غير ابن شهاب الزهري ، فإنه قال : تلغي الطهر الذي طلقت فيه ثم تعتد بثلاثة أطهار ؛ لأن الله عز وجل يقول " ثلاثة قروء " .
قلت : فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة ، وقول ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة : إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة ، وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإليه ذهب داود بن علي وأصحابه . والحجة على الزهري أن النبي صلى أذن في طلاق الطاهر من غير جماع ، ولم يقل أول الطهر ولا آخره . وقال أشهب : لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض ، لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض . احتج الكوفيون بقوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم : ( إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء ) . وقال تعالى : " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر " {[2087]} [ الطلاق : 4 ] . فجعل المأيوس منه المحيض ، فدل على أنه هو العدة ، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما . وقال عمر بحضرة الصحابة : ( عدة الأمة حيضتان ، نصف عدة الحرة ، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت ) ، ولم ينكر عليه أحد . فدل على أنه إجماع منهم ، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة ، وحسبك ما قالوا ! وقوله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " يدل على ذلك ، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء ، يريد كوامل ، هذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض ؛ لأن من يقول : إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر ؛ لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا . وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم ، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة ، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة .
قلت : هذا يرده قوله تعالى : " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام " {[2088]} [ الحاقة : 7 ] فأثبت الهاء في " ثمانية أيام " ؛ لأن اليوم مذكر وكذلك القرء ، فدل على أنه المراد . ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها ، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر . وعندنا تعتد بالطهر ، على ما بيناه . وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع ، كما قال تعالى : " الحج أشهر معلومات " [ البقرة : 197 ] والمراد به شهران وبعض الثالث ، فكذلك قوله : " ثلاثة قروء " . والله أعلم . وقال بعض من يقول بالحيض : إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة ، قاله سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي . وقال شريك : إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل . وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال : ( إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج . إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها ) . وروى نحوه عن ابن عباس ، وهو قول ضعيف بدليل قول الله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن " {[2089]} [ البقرة :234 ] على ما يأتي . وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة ، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا ، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت . والله أعلم .
الخامسة : والجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان . وروي عن ابن سيرين أنه قال : ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة ، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة : فإن السنة أحق أن تتبع . وقال الأصم عبدالرحمن بن كيسان وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر : إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة ، فعدة الحرة والأمة سواء . واحتج الجمهور بقوله عليه السلام : ( طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ) . رواه ابن جريج عن عطاء عن مظاهر بن أسلم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان ) فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا ، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف . وروي عن ابن عمر : أيهما رق نقص طلاقه ، وقالت به فرقة من العلماء .
قوله تعالى : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " أي من الحيض ، قاله عكرمة والزهري والنخعي . وقيل : الحمل ، قاله عمر وابن عباس . وقال مجاهد : الحيض والحمل معا ، وهذا على أن الحامل تحيض . والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطلاع إلا من جهة النساء جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها ، وجعلهن مؤتمنات على ذلك ، وهو مقتضى قوله تعالى : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " . وقال سليمان بن يسار : ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن ، ولكن وكل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات . ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه ، فإذا قالت المطلقة : حضت ، وهي لم تحض ، ذهبت بحقه من الارتجاع ، وإذا قالت : لم أحض ، وهي قد حاضت ، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به ، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه ، وكذلك الحامل تكتم الحمل ، لتقطع حقه من الارتجاع . قال قتادة : كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ، ففي ذلك نزلت الآية . وحكي أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني طلقت امرأتي وهي حبلى ، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري فأنزل الله الآية ، وردت امرأة الأشجعي عليه .
الثانية : قال ابن المنذر : وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم : إذا قالت المرأة في عشرة أيام : قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لا تصدق ولا يقبل ذلك منها ، إلا أن تقول : قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه . واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة ، فقال مالك : إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها ، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان . قال في المدونة : إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء ، وبه قال شريح ، وقال له علي بن أبي طالب : قالون ! أي أصبت وأحسنت . وقال في كتاب محمد : لا تصدق إلا في شهر ونصف . ونحوه قول أبي ثور ، قال أبو ثور : أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما ، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما ، وأقل الحيض يوم . وقال النعمان : لا تصدق في أقل من ستين يوما ، وقال به الشافعي .
قوله تعالى : " إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر " هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان ، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه . أي فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق ، وليس قوله : " إن كن يؤمن بالله " على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم ، لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن ، وإنما هو كقولك : إن كنت أخي فلا تظلمني ، أي فينبغي أن يحجزك الإيمان عنه ، لأن هذا ليس من فعل أهل الإيمان .
قوله تعالى :{ وبعولتهن أحق بردهن } فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : " وبعولتهن " البعولة جمع البعل ، وهو الزوج ، سمي بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها ، ومنه قوله تعالى : " أتدعون بعلا " {[2090]} [ الصافات : 125 ] أي ربا ، لعلوه في الربوبية ، يقال : بعل وبعولة ، كما يقال في جمع الذكر : ذكر وذكورة ، وفي جمع الفحل : فحل وفحولة ، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ، وهو شاذ لا يقاس عليه ، ويعتبر فيها السماع ، فلا يقال في لعب : لعوبة . وقيل : هي هاء تأنيث دخلت على فعول . والبعولة أيضا مصدر البعل . وبعل الرجل يبعل ( مثل منع يمنع ) بعولة ، أي صار بعلا : والمباعلة والبعال : الجماع ، ومنه قوله عليه السلام لأيام التشريق : ( إنها أيام أكل وشرب وبِعَال ) وقد تقدم . فالرجل بعل المرأة ، والمرأة بعلته . وباعل مباعلة إذا باشرها . وفلان بعل هذا ، أي مالكه وربه . وله محامل كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى{[2091]} .
الثانية : قوله تعالى : " أحق بردهن " أي بمراجعتهن ، فالمراجعة على ضربين : مراجعة في العدة على حديث ابن عمر . ومراجعة بعد العدة على حديث معقل ، وإذا كان هذا فيكون في الآية دليل على تخصيص ما شمله العموم في المسميات ؛ لأن قوله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " عام في المطلقات ثلاثا ، وفيما دونها لا خلاف فيه . ثم قوله : " وبعولتهن أحق " حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث . وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة ، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين ، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة ، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه ، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ، ليس على سنة المراجعة ، وهذا إجماع من العلماء . قال المهلب : وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط ، وهذا إجماع من العلماء ، لقوله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم " {[2092]} [ الطلاق : 2 ] فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق . قال ابن المنذر : وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روي عن الأوائل في هذا الباب ، والله تعالى أعلم .
الثالثة : واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة ، فقال مالك : إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة . وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد ، وبه قال إسحاق ، لقوله عليه السلام : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) . فإن وطئ في العدة لا ينوي الرجعة فقال مالك : يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد . قال ابن القاسم : فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في بقية مدة الاستبراء ، فإن فعل فسخ نكاحه ، ولا يتأبد تحريمها عليه لأن الماء ماؤه . وقالت طائفة : إذا جامعها فقد راجعها ، وهكذا قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين والزهري وعطاء وطاوس والثوري . قال : ويشهد ، وبه قال أصحاب الرأي والأوزاعي وابن أبي ليلى ، حكاه ابن المنذر . وقال أبو عمر : وقد قيل : وطؤه مراجعة على كل حال ، نواها أو لم ينوها ، ويروى ذلك عن طائفة من أصحاب مالك ، وإليه ذهب الليث . ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخيار أن له وطأها في مدة الخيار ، وأنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه واختار نقض البيع بفعله ذلك . وللمطلقة الرجعية حكم من هذا . والله أعلم .
الرابعة : من قبَّلَ أو باشر ينوي بذلك الرجعة كانت رجعة ، وإن لم ينو بالقبلة والمباشرة الرجعة كان آثما وليس بمراجع . والسنة أن يشهد قبل أن يطأ{[2093]} أو قبل أن يقبل أو يباشر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن وطئها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهي رجعة ، وهو قول الثوري : وينبغي أن يشهد . {[2094]}وفي قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور لا يكون رجعة ، قاله ابن المنذر . وفي " المنتقى " قال : ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول ، فأما بالفعل نحو الجماع والقبلة فقال القاضي أبو محمد : يصح بها وبسائر الاستمتاع للذة . قال ابن المواز : ومثل الجسة للذة ، أو أن ينظر إلى فرجها أو ما قارب ذلك من محاسنها إذا أراد بذلك الرجعة ، خلافا للشافعي في قوله : لا تصح الرجعة إلا بالقول ، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وجابر بن زيد وأبي قلابة .
الخامسة : قال الشافعي : إن جامعها ينوي الرجعة ، أو لا ينويها فليس برجعة ، ولها عليه مهر مثلها . وقال مالك : لا شيء لها ، لأنه لو ارتجعها لم يكن عليه مهر ، فلا يكون الوطء دون الرجعة أولى بالمهر من الرجعة . وقال أبو عمر : ولا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي ، وليس قوله بالقوي ، لأنها في حكم الزوجات وترثه ويرثها ، فكيف يجب مهر المثل في وطء امرأة حكمها في أكثر أحكامها حكم الزوجة ! إلا أن الشبهة في قول الشافعي قوية ؛ لأنها عليه محرمة إلا برجعة لها . وقد أجمعوا على أن الموطوءة بشبهة يجب لها المهر ، وحسبك بهذا !
السادسة : واختلفوا هل يسافر بها قبل أن يرتجعها ، فقال مالك والشافعي : لا يسافر بها حتى يراجعها ، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه روى عنه الحسن بن زياد أن له أن يسافر بها قبل الرجعة ، وروى عنه عمرو بن خالد ، لا يسافر بها حتى يراجع .
السابعة : واختلفوا هل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها ، وهل تتزين له وتتشرف{[2095]} ، فقال مالك : لا يخلو معها ، ولا يدخل عليها إلا بإذن ، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها ، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما ، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها . وقال ابن القاسم : رجع مالك عن ذلك فقال : لا يدخل عليها ولا يرى شعرها . ولم يختلف أبو حنيفة وأصحابه في أنها تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف . وعن سعيد بن المسيب قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها ، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي ، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا ، ويسلم إذا دخل ، ونحوه عن قتادة ، ويشعرها إذا دخل بالتنخم والتنحنح . وقال الشافعي : المطلقة طلاقا يملك رجعتها محرمة على مطلقها تحريم المبتوتة حتى يراجع ، ولا يراجع إلا بالكلام ، على ما تقدم .
الثامنة : أجمع العلماء على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة : إني كنت راجعتك في العدة وأنكرت أن القول قولها مع يمينها ، ولا سبيل له إليها ، غير أن النعمان كان لا يرى يمينا في النكاح ولا في الرجعة ، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم . وكذلك إذا كانت الزوجة أمة واختلف المولى والجارية ، والزوج يدعي الرجعة في العدة بعد انقضاء العدة وأنكرت فالقول قول الزوجة الأمة وإن كذبها مولاها ، هذا قول الشافعي وأبي ثور والنعمان . وقال يعقوب ومحمد : القول قول المولى وهو أحق بها .
التاسعة : لفظ الرد يقتضي زوال العصمة ، إلا أن علماءنا قالوا : إن الرجعية محرمة الوطء ، فيكون الرد عائدا إلى الحل . وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن قال بقولهما - في أن الرجعة محللة الوطء : إن الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي{[2096]} جعل له خاصة ، وإن أحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء - قالوا : وأحكام الزوجية وإن كانت باقية فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة ، فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت المرأة في سلوكها ، وهذا رد مجازي ، والرد الذي حكمنا به رد حقيقي ، فإن هناك زوال مستنجز وهو تحريم الوطء ، فوقع الرد عنه حقيقة ، والله أعلم .
العاشرة : لفظ " أحق " يطلق عند تعارض حقين ، ويترجح أحدهما ، فالمعنى حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها ، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة ، ومثل هذا قوله عليه السلام : ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) . وقد تقدم .
الحادية عشرة : الرجل مندوب إلى المراجعة ، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها ، وإزالة الوحشة بينهما ، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم ، لقوله تعالى : " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " [ البقرة : 231 ] ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة ، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه ، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه .
قوله تعالى :{ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " ولهن " أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ، ولهذا قال ابن عباس : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ، وما أحب أن أستنظف{[2097]} كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي ؛ لأن الله تعالى قال : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " أي زينة من غير مأثم . وعنه أيضا : أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن . وقيل : إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن . قاله الطبري : وقال ابن زيد : تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم ، والمعنى متقارب . والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية .
الثانية : قول ابن عباس : ( إني لأتزين لامرأتي ) . قال العلماء : أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم ، فإنهم يعملون ذلك على اللَّبَق{[2098]} والوفاق ، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت ، وزينة تليق بالشباب ، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه ، والشاب إذا فعل ذلك سمُجَ ومقت . لأن اللحية لم توفر بعد ، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج ، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي ) . وكذلك في شأن الكسوة ، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق ، فإنما يعمل على اللَّبَق{[2099]} والوفاق عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال . وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به . فأما الطيب والسواك والخلال{[2100]} والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع . والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة ، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة " النحل " {[2101]} . ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره . وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه{[2102]} وتقوي شهوته حتى يعفّها .
الثالثة : قوله تعالى : " وللرجال عليهن درجة " أي منزلة . ومدرجة الطريق : قارعته ، والأصل فيه الطي ، يقال : درجوا ، أي طووا عمرهم ، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها . ويقال : رجل بين الرّجلة ، أي القوة . وهو أرجل الرجلين ، أي أقواهما . وفرس رجيل ، أي قوي ، ومنه الرجل ، لقوتها على المشي . فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على{[2103]} الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد . وقال حميد : الدرجة اللحية ، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها . قال ابن العربي : فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم ، وخصوصا في كتاب الله تعالى ! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء ، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها ، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه ، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه . وقيل : الدرجة الصداق ، قاله الشعبي . وقيل : جواز الأدب . وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل ، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه ، ولهذا قال عليه السلام : ( ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) . وقال ابن عباس : ( الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة ، والتوسع للنساء في المال والخلق ، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه ) . قال ابن عطية : وهذا قول حسن بارع . قال الماوردي : يحتمل أنها في حقوق النكاح ، له رفع العقد دونها ، ويلزمها إجابته إلى الفراش ، ولا يلزمه إجابتها .
قلت : ومن هذا قوله عليه السلام : ( أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح ) . قوله تعالى : " والله عزيز " أي منيع السلطان لا معترض عليه . قوله تعالى : " حكيم " أي عالم مصيب فيما يفعل .