قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الأخر } .
اعلم أنه تعالى ذكر في هذا الموضع أحكاما كثيرة للطلاق :
فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة : اعلم أن المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها ، وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة ، فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة ، لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع ، والعدة غير واجبة عليها بالإجماع ، وأما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولا بها أو لا تكون ، فإن لم تكن مدخولا بها لم تجب العدة عليها ، قال الله تعالى : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وأما إن كانت مدخولا بها فهي إما أن تكون حائلا أو حاملا ، فإن كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل لا بالإقراء قال الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وأما إن كانت حائلا فأما أن يكون الحيض ممكنا في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط ، أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالإقراء ، قال الله تعالى : { واللائى يئسن من المحيض } وأما إذا كان الحيض في حقها ممكنا فإما أن تكون رقيقة ، وإما أن تكون حرة ، فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة ، أما إذا كانت المرأة منكوحة ، وكانت مطلقة بعد الدخول ، وكانت حائلا ، وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة ، فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالإقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث أنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب ، يقال في الثوب : إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد ، أو حصل فيه بياض قليل ، فأما إذا كان الغالب عليه البياض ، وكان السواد قليلا ، كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذبا ، فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصا أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر ، وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسما واحدا ، فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى .
والجواب : أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها : إنها مطلقة ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل ، وأما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالإقراء إنما يكون حيث تحصل الإقراء ، وهذان القسمان لم تحصل الإقراء في حقهما ، وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم .
السؤال الثاني : قوله : { يتربصن } لا شك أنه خبر ، والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر .
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار ، وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافيا في المقصود ، لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف ، أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم ، وعرف أنه مهما انقضت هذه العدة حصل المقصود ، سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب الثاني : قال صاحب «الكشاف » : التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعارا بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا ، ونظيره قولهم في الدعاء : رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها .
السؤال الثالث : لو قال يتربص المطلقات : لكان ذلك جملة من فعل وفاعل ، فما الحكمة في ترك ذلك ، وجعل المطلقات مبتدأ ، ثم قوله : { يتربصن } إسناد الفعل إلى الفاعل ، ثم جعل هذه الجملة خبرا عن ذلك المبتدأ .
الجواب : قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب «دلائل الإعجاز » : إنك إذا قدمت الاسم فقلت : زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك : فعل زيد ، وذلك لأن قولك : زيد فعل يستعمل في أمرين أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل ، كقولك : أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد الثاني : أن لا يكون المقصود ذلك ، بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل ، كقولهم : هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر ، بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى : { وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } وقول الشاعر :
هما يلبسان المجد أحسن لبسة *** شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما
والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت : عبد الله ، فقد أشعرت بأنك تريد الاخبار عنه ، فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه ، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة .
السؤال الرابع : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء كما قيل : { تربص أربعة أشهر } وما الفائدة في ذكر الأنفس .
الجواب : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص .
السؤال الخامس : لفظ ( أنفس ) جمع قلة ، مع أنهن نفوس كثيرة ، والقروء جمع كثرة ، فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة .
والجواب : أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية ، أو لعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الإقراء .
السؤال السادس : لم لم يقل : ثلاث قروء ، كما يقال : ثلاثة حيض .
الجواب : لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر فهذا ما يتعلق بالسؤالات في هذه الآية وبقى من الكلام في هذه الآية مسألة واحدة في حقيقة القروء ، فنقول : القروء جمع قرء وقرء ، ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر ، قال أبو عبيدة : الإقراء من الأضداد في كلام العرب ، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعا ، وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض ، مجاز في الطهر ، ومنهم من عكس الأمر ، وقال قائلون : إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر ، والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول : أن القرء هو الاجتماع ، ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم ، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن ، وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي .
والقول الثاني : وهو قول أبي عبيد : أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة .
والقول الثالث : وهو قول أبي عمرو بن العلاء : أن القرء هو الوقت ، يقال : أقرأت النجوم إذا طلعت ، وأقرأت إذا أفلت ، ويقال : هذا قارىء الرياح لوقت هبوبها ، وأنشدوا للهذلي :
إذا هبت لقارئها الرياح *** . . .
وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر ، لأن لكل واحد منهما وقتا معينا ، واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء ، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف ، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك ، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين ، واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السبعة ، ومالك ، وربيعة ، وأحمد رضي الله عنهم في رواية ، وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق رضي الله عنهم ، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر ، وعندهم أطول ، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءا وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها ، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء ، أو يمضي عليها وقت صلاة ، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } ومعناه في وقت عدتهن ، لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض ، أجاب صاحب «الكشاف » عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن ، كما يقول لثلاث بقين من الشهر ، يريد مستقبلا لثلاث ، وأقول هذا الكلام يقوى استدلال الشافعي رضي الله عنه لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه ، فكذا ههنا قوله : { فطلقوهن لعدتهن } معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه ، ولما كان الأمر حاصلا بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة ، وذلك هو المطلوب .
الحجة الثانية : ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : هل تدرون الأقراء ؟ الأقراء الأطهار ، ثم قال الشافعي رضي الله عنه : والنساء بهذا أعلم ، لأن هذا إنما يبتلي به النساء .
الحجة الثالثة : ( القرء ) عبارة عن الجمع ، يقال : ما قرأت الناقة نسلا قط ، أي ما جمعت في رحمها ولدا قط ومنه قول عمرو بن كلثوم :
هجان اللون لم تقرأ جنينا *** . . .
وقال الأخفش يقال : ما قرأت حيضة ، أي ما ضمت رحمها على حيضة ، وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء ، وأقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب ، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه ، وقرأ القارىء أي جمع الحروف بعضها إلى بعض .
إذا ثبت هذا فنقول : وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم ، لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم .
قلنا : الدماء لا تجتمع في الرحم ألبتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم ، وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعا واشتمالا في الدم آخر الطهر ، إذ لو لم تمتلىء بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج ، فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين .
الحجة الثالثة : أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه ، وهو أقل ما يسمى بالإقراء الثلاثة وهي الأطهار ، لأن الاعتداد بالأطهار أقل زمانا من الاعتداد بالحيض ، فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع .
الحجة الرابعة : أن ظاهر قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء أن تخرج عن العهدة ، وكل واحد من الطهر ومن الحيض يسمى بهذا الاسم ، فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير ، إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض ، فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة ، وإذا كان كذلك كانت متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل ، وكل ما كان كذلك لم يكن واجبا فإذن الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب وذلك يقتضي أن لا يكون الاعتداد بمدة الحيض واجبا وهو المطلوب ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول : أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن في الشرع غلب استعمالها في الحيض ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « دعي الصلاة أيام أقرائك » وإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكورة في القرآن إلى الحيض أولى .
الحجة الثانية : أن القول بأن الأقراء حيض يمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها لأن هذا القائل يقول : إن المطلقة يلزمها تربص ثلاث حيض ، وإنما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثالثة ومن قال : إنه طهر يجعلها خارجة من العدة بقرأين وبعض الثالث ، لأن عنده إذا طلقها في آخر الطهر تعتد بذلك قرءا فإذا كان في أحد القولين تكمل الأقراء الثلاثة دون القول الآخر كان القول الأول أليق بالظاهر ، أجاب الشافعي رضي الله عنه عن ذلك أن الله قال : { الحج أشهر معلومات } والأشهر جمع وأقله ثلاثة ، ثم إنا حملنا الآية على شهرين وبعض الثالث ، وذلك هو شوال ، وذو القعدة ، وبعض ذو الحجة ، فكذا ههنا جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين وبعض طهر ، أجاب الجبائي من شيوخ المعتزلة عن هذا الجواب من وجهين الأول : أنا تركنا الظاهر في تلك الآية لدليل ، فلم يلزمنا أن نترك الظاهر ههنا من غير دليل والثاني : أن في العدة تربصا متصلا ، فلا بد من استيفاء الثلاثة وليس كذلك أشهر الحج ، لأنه ليس فيها فعل متصل ، فكأنه قيل : هذه الأشهر وقت الحج لا على سبيل الإستغراق ، وأجاب المتأخرون من أصحابنا عن هذه الحجة من وجهين الأول : كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب النقصان عن الثلاثة ، فحمله على الحيض يوجب الزيادة ، لأنه إذا طلقها في أثناء الطهر كان ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة فتحصل الزيادة وعذرهم عنه أن هذه لا بد من تحملها لأجل الضرورة ، لأنه لو جاز الطلاق في الحيض لأمرناه بالطلاق في آخر الحيض حتى تعتد بأطهار كاملة ، وإذا اختص الطلاق بالطاهر صارت تلك الزيادة متحملة للضرورة ، فنحن أيضا نقول : لما صارت الأقراء مفسرة بالأطهار ، والله تعالى أمرنا بالطلاق في الطهر ، صار تقدير الآية يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار طهر الطلاق فيه .
والوجه الثاني : في الجواب أنا بينا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنما يحصل في آخر الطهر قرءا تاما ، وعلى هذا التقدير لم يلزم دخول النقصان في شيء من القرء .
الحجة الثالثة : لهم : أنه تعالى نقل إلى الشهور عند عدم الحيض فقال : { واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأيضا لما كان الأشهر شرعت بدلا عن الأقراء والبدل يعتبر بتمامها ، فإن الأشهر لا بد من إتمامها وجب أيضا أن يكون الكمال معتبرا في المبدل ، فلا بد وأن تكون الأقراء الكاملة هي الحيض ، أما الأطهار فالواجب فيها قرءان وبعض .
الحجة الرابعة : لهم : قوله صلى الله عليه وسلم : « طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان » وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة ، فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض .
الحجة الخامسة : أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة ، فكذا العدة تكون بالحيضة ، لأن المقصود من الاستبراء والعدة شيء واحد .
الحجة السادسة : لهم : أن الغرض الأصلي في العدة استبراء الرحم ، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر ، فوجب أن يكون المعتبر هو الحيض دون الطهر .
الحجة السابعة : لهم : أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة ، لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض ، فحينئذ يحرم للغير التزوج بها ، وإن جعلنا القرء طهرا ، فحينئذ يحل للغير التزوج بها ، وجانب التحريم أولى بالرعاية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال » ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة ، ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط ، فكان أولى لقوله صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » فهذا جملة الوجوه في هذا الباب .
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات ، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه .
أما قوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن } فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنيا على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء ، وضع الحمل في حق الحامل ، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذرا جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوما وساعة ، لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة ، ثم حاضت يوما وليلة وهو أقل الحيض ، ثم طهرت خمسة عشر يوما وهو أقل الطهر ، مرة أخرى يوما وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر يوما ، ثم رأت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار ، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملا فادعت أنها أسقطت كان القول قولها ، لأنها على أصل أمانتها .
واعلم أن للمفسرين في قوله : { ما خلق الله فى أرحامهن } ثلاثة أقوال الأول : أنه الحبل والحيض معا ، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما ، أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زمانا من انقضاء عدتها بوضع الحمل ، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بزوج آخر . أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحبل ، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عدتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولا فكتمته ، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل ، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها ، فثبت أنه كما أن لها غرضا في كتمان الحبل ، فكذلك في كتمان الحيض ، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين .
القول الثاني : أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } وثانيها : أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها : أن حمل قوله تعالى : { ما خلق الله فى أرحامهن } على الولد الذي هو جوهر شريف ، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر ، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة ، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها ، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح ، فوجب حمل اللفظ على الكل .
القول الثالث : المراد هو النهي عن كتمان الحيض ، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ، ولم يتقدم ذكر الحمل ، وهذا أيضا ضعيف ، لأن قوله : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن } كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم ، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم .
أما قوله تعالى : { إن كن يؤمن بالله واليوم الأخر } فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة ، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم : إن كنت مؤمنا فلا تظلم ، تريد إن كنت مؤمنا فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي ، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء ، وهو كما قال في الشهادة { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقال : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى ائتمن أمانته وليتق الله ربه } والآية دالة على أن كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد .
قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم } .
اعلم أن هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية ، وفي البعولة قولان أحدهما : أنه جمع بعل ، كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة ، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كعوبة ، ولا في كلب : كلابة ، واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة ، كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات ، وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان ، كما أنهما زوجان ، وأصل البعل السيد المالك فيما قيل ، يقال : من بعل هذه الناقة ؟ كما يقال : من ربها ، وبعل اسم صنم كانوا يتخدونه ربا ، وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسودد .
القول الثاني : أن العبولة مصدر ، يقال : بعل الرجل يبعل بعولة ، إذا صار بعلا ، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أيام التشريق : « أنها أيام أكل وشرب وبعال » وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ، ومنه الحديث « إذا أحسنتن ببعل أزواجكن » وعلى هذا الوجه كان معنى الآية : وأهل بعولتهن .
وأما قوله : { أحق بردهن في ذلك } فالمعنى : أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما فائدة قوله : { أحق } مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك .
الجواب من وجهين الأول : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن } كان تقدير الكلام : فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ، فبين أن الزوج الأول أحق منه ، وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة الثاني : إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول : { وبعولتهن أحق } من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة .
السؤال الثاني : ما معنى الرد ؟ .
الجواب : يقال : رددته أي رجعته قال تعالى في موضع { ولئن رددت إلى ربي } وفي موضع آخر : { ولئن رجعت } .
السؤال الثالث : ما معنى الرد في المطلقة الرجعية ؟ وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت .
الجواب : أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك ، فلا جرم سميت الرجعة ردا ، لا سيما ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة ، ففي الرد على مذهبه شيئان أحدهما : ردها من التربص إلى خلافه الثاني : ردها من الحرمة إلى الحل .
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله تعالى : { في ذلك } .
الجواب : أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص ، فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة .
أما قوله تعالى : { إن أرادوا إصلاحا } فالمعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة ، ونظيره قوله : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات ، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة ، حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة ، فنهوا عن ذلك ، وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح ، وهو قوله : { إن أرادوا إصلاحا } .
فإن قيل : إن كلمة { إن } للشرط ، والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة .
والجواب : أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها ، فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها ، بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة ، حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم .
أما قوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن } فاعلم أنه تعالى لما بين أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقا على الآخر .
واعلم أن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعيا حق الآخر ، وتلك الحقوق المشتركة كثيرة ، ونحن نشير إلى بعضها فأحدها : أن الزوج كالأمير والراعي ، والزوجة كالمأمور والرعية ، فيجب على الزوج بسبب كونه أميرا وراعيا أن يقوم بحقها ومصالحها ، ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج وثانيها : روي عن ابن عباس أنه قال : «إني لأتزين لأمرأتي كما تتزين لي » لقوله تعالى : { ولهن مثل الذى عليهن } وثالثها : ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة ، مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لمقدمة الآية .
أما قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : رجل بين الرجلة ، أي القوة ، وهو أرجل الرجلين أي أقواهما ، وفرس رجيل قوي على المشي ، والرجل معروف لقوته على المشي ، وارتجل الكلام أي قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية ، وترجل النهار قوي ضياؤه ، وأما الدرجة فهي المنزلة وأصلها من درجت الشيء أدرجه درجا ، وأدرجته إدراجا إذا طويته ، ودرج القوم قرنا بعد قرن أي فنوا ومعناه أنهم طووا عمرهم شيئا فشيئا ، والمدرجة قارعة الطريق ، لأنها تطوي منزلا بعد منزل ، والدرجة المنزلة من منازل الطريق ، ومنه الدرجة التي يرتقي فيها .
المسألة الثانية : اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمر معلوم ، إلا أن ذكره ههنا يحتمل وجهين الأول : أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها : العقل والثاني : في الدية والثالث : في المواريث والرابع : في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة والخامس : له أن يتزوج عليها ، وأن يتسرى عليها ، وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج والسادس : أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه والسابع : أن الزوج قادر على تطليقها ، وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها ، شاءت المرأة أم أبت ، أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج ، وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضا على أن تمنع الزوج من المراجعة والثامن : أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة ، وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور ، ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان » وفي خبر آخر : « اتقوا الله في الضعيفين : اليتيم والمرأة » ، وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن أكثر ، فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن ، وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد .
والوجه الثاني : أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين ، لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة ، واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال : إن نصيب المرأة فيها أوفر ، ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة ، وهي التزام المهر والنفقة ، والذب عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها عن مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوبا ، رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها » ثم قال تعالى : { والله عزيز حكيم } أي غالب لا يمنع ، مصيب أحكامه وأفعاله ، لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل .