غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

228

التفسير : الحكم الحادي عشر : الطلاق . ويشتمل على أحكام أولها : وجوب العدة . واعلم أن المطلقة وهي التي أوقع الطلاق عليها إما أن تكون أجنبية ولا يقع الطلاق عليها في عرف الشرع بالإجماع وإما أن تكون منكوحة وحينئذ إما أن لا تكون مدخولاً بها ولا عدة عليه لقوله تعالى { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الأحزاب : 49 ] وإما أن تكون مدخولاً بها وحينئذ إن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل قال تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] وإن كانت حائلاً فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو الكبر المفرط فعدتها بالأشهر لا بالأقراء لقوله سبحانه { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق : 4 ] وإن كان المحيض في حقها ممكناً فإن كانت رقيقة فعدتها قرآن ، وإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أقراء لهذه الآية ، فظهر أن قوله { والمطلقات } لا يتناول إلا المنكوحة الحرة المدخول بها كالحائل من ذوات الحيض . لا يقال : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب لا المغلوب . فيقال : الثوب أسود إذا كان الغالب عليه السواد لا البياض . وههنا الباقي قسم واحد من الأقسام الخمسة فكيف يحسن إطلاق لفظ العام عليه ؟ لأنا نقول : أما الأجنبية فتخرج بعرف الشرع كما مر ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، وكذا الحامل والآيسة لأن إيجاب الاعتداء بالأقراء إنما يكون حيث يحصل الأقراء ولا أقراء في حقهما . وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن اللفظ باقٍ على تناوله الأغلب . وإنما لم يقل وليتربصن المطلقات بل أخرج الأمر في صورة الخبر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن فهو يخبر عن موجود . وبناء الكلام على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد وتقوّ . ولو قيل : " وليتربصن المطلقات " لم يكن بتلك الوكادة وفي ذكر الأنفس دون أن يقال " يتربصن ثلاثة قروء " تهييج لهن على التربص لأن فيه ما يستنكفن منه ، فإن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، نوازع إليهم ، فأمرن أن يقبضن أنفسهن . والقروء جمع قرء بفتح القاف أو ضمها ، والراء ساكنة في الحالين . وفي الصحاح بفتح القاف فقط . ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض ، والمشهور أنه حقيقة فيهما . وقيل : حقيقة في الحيض مجاز في الطهر . وقيل بالعكس . وقيل : إنه موضوع لمعنى واحد مشترك بينهما إما لأن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي ، وإما لأنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وهو قول أبي عبيد ، وإما لأن القرء هو الوقت . وقيل : " هذا قارئ الرياح " لوقت هبوبها . ولا يخفى أن لكل من الطهر والحيض وقتاً معيناً وهذا قول أبي عمرو بن العلاء . ثم إن الله تعالى أمر المطلقة بثلاثة أشياء تسمى أقراء ، لكن العلماء أجمعوا على أن الثلاثة يجب أن تكون من أحد الجنسين . ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنها الأطهار ، ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة ومالك وربيعة وأحمد في رواية . وقال عمر وعلي وابن مسعود : هي الحيض . وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى . وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها . وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، أو من الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها . ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] أي في زمان عدتهن . وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن كما تقول : " لثلاث بقين من الشهر " أي مستقبلاً لثلاث . وقيل : هذا يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل : " لثلاث بقين من الشهر " معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه . فمعنى الآية طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه . ولما كان الإذن حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة . وروي عن عائشة أنها قالت : هل تدرون ما الأقراء ؟ الأقراء الأطهار . ثم قال الشافعي : النساء بهذا أعلم . وأيضاً التركيب يدل على الجمع . وأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً على الدم آخر الطهر ، إذ لو لم تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج . فمن أول الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، والآخر هو حال كمال الاجتماع فآخر الطهر هو القرء بالحقيقة . وأيضاً الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض ، فيلزم المصير إليه لأن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره حق الحبس والمنع . ولما كانت المدة أقل كان أقرب إلى هذا الأصل وأوفق له . وأيضاً الآية تدل على أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء خرجت عن العهدة فتكون متمكنة من الاعتداد بالأطهار التي مدتها أقل ، ومن الاعتداد بالحيض التي مدتها أكثر ، فيكون الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب . حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام أقرائك " وقوله " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " ولأن الغرض الأصلي من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام ، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وفي تقليل مدة العدة تحليل بضعها للزوج الثاني . فالتكثير أحوط ولأن إطلاق طهر كامل على بعض الطهر خلاف الظاهر ، وإذا تعارضت الوجوه ضعفت الترجيحات ويكون حكم الله تعالى في كل أحد ما أدى اجتهاده إليه . وانتصاب { ثلاث قروء } على أنه مفعول به كقولهم " المحتكر يتربص الغلاء " أي يتربصن مضي ثلاثة قروء . أو على الظرفية أي مدة ثلاثة قروء . وإنما جاء المميز على جمع الكثرة دو القلة التي هي الأقراء للاتساع فإنهم يستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ولهذا قال : { بأنفسهن } وما هي إلا نفوس كثيرة . وأيضاً فلعل القروء أكثر استعمالاً فنزلا القليل بمنزلة المهمل فيكون مثل قولهم " ثلاثة شسوع " . ثم إن أمر العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى معرفة ذلك متعذراً على الرجال ، جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو عند الشافعي اثنان وثلاثون يوماً وساعة . لأنها إذا طلقت طاهراً فحاضت بعد ساعة ثم حاضت يوماً وليلة - وهو أقل الحيض - ثم طهرت خمسة عشر يوماً - وهو أقل الطهر - ثم حاضت مرة أخرى يوماً وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم ، فقد انقضت عدتها لحصول ثلاثة أطهار . فمتى ادعت هذا أو أكثر منه قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت سقوط الولد كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها ولهذا قال سبحانه : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } فأكثر المفسرين قالوا : إن الكتمان راجع إلى الحبل والحيض معاً . وذلك أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما . أما كتمان الحمل فإذا كتمت الحمل قصرت مدة عدتها فتتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بزوج آخر وأحبت أن تلصق ولدها بالزوج الثاني . وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء ، فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ، فإذا حاضت أولاً فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وهكذا إن كتمت الحيضة الثالثة . وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها . وقيل : المراد النهي عن كتمان الحبل فقط لأن المخلوق في الأرحام هو الحبل لا الحيض ، ولأن حمل المعنى على ما هو شريف أولى لقوله تعالى { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] وقيل : المراد النهي عن كتمان الحيض لأن الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ولم يتقدم ذكر الحمل . وقيل : يجوز أن يراد اللائي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه . وفي قوله { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } تعظيم لفعلهن ، وإن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم . وفيه أن من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد . الحكم الثاني للطلاق : الرجعة وذلك قوله { وبعولتهن أحق بردهن } والبعل الزوج والجمع البعولة . والتاء لتأكيد التأنيث في الجماعة كصقورة . وليس هذا في كل جمع وإنما هو مقصور على السماع . ويقال للمرأة أيضاً بعل وبعلة كما يقال زوج وزوجة والبعل : السيد المالك . يقال : مَنْ بعل هذه الناقة ؟ أي مَنْ ربها وصاحبها ؟ ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قوله " بعل حسن البعولة " وعلى هذا فالمضاف محذوف أي أهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن . قال تعالى في موضع : { ولئن رددت إلى ربي }

[ الكهف : 36 ] وفي موضع آخر { ولئن رجعت } [ فصلت : 50 ] فكأنه يردها من التربص إلى خلافه ، ومن الحرمة إلى الحل في ذلك أي في مدة التربص ، لأنه إذا انقضى ذلك الوقت بطل حق الرد والرجعة . وإنما تكون البعولة أحق عند الله تعالى برجعتهن إن أرادوا إصلاحاً لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن لا الضرار وتطويل العدة كما في قوله { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } فلو راجعها لقصد المضارة استوجب من الله العقاب ، وإن صحت رجعته شرعاً لأنا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر . فإن قيل : كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقاً فيها ؟ فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية أو نقول : إنهن إن كتمن ما في أرحامهن لأجل أن يتزوّج بهن آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وإن ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ولهن من الحق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم .

والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب في كونهما من الحسنة لا في جنس الفعل . فإذا غسلت ثيابه أو خبزت لا يجب عليه أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال . قال أبو هريرة : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي النساء خير ؟ قال : " التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخونه في نفسها وماله بما يكره " وفي حديث حجة الوداع " ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " وعن ابن عباس أنه قال : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى { ولهن مثل الذي عليهن } وقيل : معنى الآية ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان . { وللرجال عليهن درجة } زيادة في الحق وفضيلة وهي واحدة الدرجات الطبقات من المراتب . أصلها من درج الرجل . والضب يدرج دروجاً أي مشى ودرج أي مضى لسبيله . ودرج القوم إذا انقرضوا . وفي المثل " أكذب من دبَّ ودرج " أي أكذب الأحياء والأموات . وقد فضل الله الرجال على النساء في أمور : في العقل وفي الدية وفي الميراث وفي نصيبه من المغنم ، وفي صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة ، وفي أن له أن يتزوج عليها ويتسرى وليس لها ذلك ، وفي أن له أن يطلقها وإذا طلقها راجعها شاءت المرأة أم أبت ولا قدرة للمرأة على التطليق ولا على الرجعة فإذن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان " وفي خبر آخر " اتقوا الله الضعيفين اليتيم والمرأة " وذلك أن من كانت نعمة الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد ، وقيل : بل الغرض من الآية أن فوائد الزوجية هي السكن والازدواج والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين ، بل يمكن أن يقال : نصيب المرأة منها أوفر . ثم إن الزوج اختص بأنواع من الكلفة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ، فيكون وجوب الخدمة على المرأة أشد رعاية لهذه الحقوق الزائدة فيكون هذا كقوله تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } [ النساء : 34 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها " { والله عزيز حكيم } غالب لا يمنع مصيب في أفعاله ، وأحكامه لا يتطرق إليها احتمال العبث والسفه والغلط والباطل .

/خ232