الآية 228 [ وقوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ؛ اختلف الناس في الأقراء ]{[2639]} ؛ قال بعضهم : [ الأقراء ]{[2640]} هي الأطهار ، وقال ذىخرون : هي الحيض ، وهو قولنا . وعلى ذلك اختلف الصحابة : قال عمر وعلي وعبد الله [ ابن مسعود ]{[2641]} رضي الله عنه هي الحيض ، وقالت عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنه ( هي الأطهار ) ، وبه أخذ أهل المدينة ، وقالوا : قلن ذلك بالسمة والأخبار عن الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، واللسان والمناقضة .
أما السنة فقوله لعمر : ( مر ابنك فليراجعها ، ثم ليطلقها ، وهي طاهرا أو حالك ) [ بنحوه البخاري : 5251 ] ؛ فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء عي الأطهار . لكن الجواب لهذا من وجهين :
أحدهما أمه جعل ذلك عدة للطلاق لا عدة عن الطلاق ؛ والعدة للطلاق غير العدة عن الطلاق ، وكذا نقول في الطهر الذي نطلق فيهال النساء : إنها عدة للطلاق لا عنها .
والثاني : [ أنه من ]{[2642]} قول الرجل : إن له الإيقاع في آخر أجزاء الطهر ؛ وقد ذكر في الخبر : الطلاق لقبل عدتهن ، ولو كان المعتني به الطهر لكان الطلاق في آخر أجزاء الطهر قبل الحيض ، في آخر أجزاء الطهر لا في القبل ، فثبت أن القول بجعل الطهر عدة عن الطلاق بعيد .
[ وأما اللسان فهو ]{[2643]} قول الناس ، قرأ الماء في حوضه ، وقرأ الطعام في شدقه ؛ أي حبس ، والطهر حبس الدم . لكن عندنا الطهر جبلة وأصل ، وعليها خلقت ، وأنشئت ، والحيض عارض ؛ فإن كان في الرحم دم خرج ، وإلا كانت على أصل خلقتها{[2644]} طاهرا ، لأن الطهر يحبس الدم ؛ فإذا كان هذا ما ذكرنا بطل احتجاجه باللغة واللسان .
وأما المناقضة{[2645]} فهي أم يقول : جعلتم هي متعدة مع زوال الأذى عنها ما لم يغتسل في إبقاء حق الرجعة ؛ فأما دعوة المناقضة فهي بعيدة لأن الكتاب جعلها باقية [ مل لم تغتسل ]{[2646]} على حكم الأذى ، فغن كان فيه طعن فعلى الكتاب .
وقال ذكر الله تعالى { ثلاثة قروء } باسم التذكير لا باسم التأنيث ، فدل أنه أراد الأطهار ؛ يقال : ثلاثة رجال وثلاث نسوة ، فإذا دخل فيه الهاء عقل أنه أراد الطهر . قيل : إن اللغة لا تمتنع{[2647]} عن تسمية شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر والحنطة ونحو ذلك إذا لك يكن ذي روح ، فإذا كان كذلك فلا دلالة فيه على جعل ذلك طهرا . وقال : القرئ ، وهو الانتقال [ من حال إلى حال ؛ يقال : أقرأ النجم إذا غاب ، وأقرأ إذا طلع ، ومحوه . لكن هذا ليس بشيء لأنه لو كان القرء ، وهو الانتقال ]{[2648]} من حال إلى حال ، لكان يقال للنجم إذا طلع : أقرأ ، فيكون الاسم للظهور لا{[2649]} للغيبوبة أو لهما جميعا ، فلا دلالة في ذلك .
وأما الأصل عندنا [ ففي وجهين :
أحدهما : قوله ]{[2650]} رضي الله عنه : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } [ البقرة : 231 ] فأمر بالإمساك عند بلوغ أجلهن ؛ [ والبلوغ اسم للتمام ]{[2651]} ، ثم لا يخلو بلوغ من أن يكون بالإشراف على أول أجزاء الطهر وعند انتهائه . فإن كان هند انتهاء [ الطهر ]{[2652]} فلا غاية له ينتهي إليها{[2653]} ليقطع عليه الحكم ، وإن كان على الإشراف [ على أوله فعليه ]{[2654]} أيضا كذلك . ثم لو حمل على الانتهاء أيضا لبعد{[2655]} بما يعرف ذلك بالحيض الذي يقطع جهة الإمساك ، فيحمل{[2656]} على ما لا يعرف [ لا على ما لا يعرف ، والله أعلم . فثبت أنه الحيض لأنه له الغاية ]{[2657]} .
والثاني : قوله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهم [ ثلاثة أشهر } ]{[2658]} [ الطلاق : 4 ] ؛ اتفقوا فيه أنه مذكور على البدل ، ولم يعرف ذكر الأبدال في الأشياء إلا على إثر الأصول حيث ما ذكر ، [ ذكر الحيض عند ذكر البدل ]{[2659]} ، فبان أن المبدل من ذلك ، إنما هي الحيض المجعولة أصولا في تقضي العدة ، إنما هو الحيض .
[ ثم الدليل على أن المراد من قوله : { ثلاثة قروء } ، وإن احتمل الطهر ، وذلك أم { ثلاثة } اسم لتمام العدد ، فيصير كأنه قال : ثلاثة أطهار ، لو أردا به الطهر ، أو ثلاث حيض ، أو أراد به الحيض . ثم هم على اختلافهم اتفقوا على أنه بالحيض ثلاثة ، وبالطهر ان وبعض الأول . ثبت أن الحيض أولى مع ما كان فيه الاحتياط ، إذا احتمل الوجهين أن يدخلا جميعا في الحق ، لا يزال ، بعد أن ثبت ، إلا بالبيان . ويبين ذا أن في الخبر تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لقبلها النساء : إنه الحيض حتى يكون قبله الطهر مع ما يحتمل عدة فعل الطلاق لا الانقضاء . يبين ذلك ما روي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ]{[2660]} : ( إن عدة الأمة ، حيضتان ، وهي بعد عدة الحرة ، ووقت طلاقها وقت طرق الحرة ) [ الدراقطني : 3785 ] . فبان أن العدة اثنتان . ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض .
وقال الشافعي : ( قول : ( عدة الأمة حيضتان ) أي قرءان ، والقرءان هما الطهران ) فيقال له : أبلغت في النقلة{[2661]} ، وأفرطت في الحجاج ؛ حين فهمت من الحيض القرء ، وهو أوضح عند أهل اللسان بالسماع من المفهوم له به مع ما في ذلك تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم باللسان ، وهو أفصح العرب ، وأعلم البشر ، حيت عبر عن الطهر الحيض .
ووجه آخر [ أنهم اتفقوا على ]{[2662]} أنه لو طلق في بعض الطهر ، فالبقية منه عدة ، ومثله من الاعتداد قرءان ونصف . والكتاب /38-ب/ أوجب الاعتداد بالثلاث ، فثبت أن الأمر بالاعتداد أمر بالحيض لا بالأطهار للمعنى الذي وصفنا ، وإن كان القرء اسما للطهر والحيض في اللغة .
ثم الأصل [ في المسألة : أن ابتداء الحل لزوجها ولغيره ، وكذلك نهاية ]{[2663]} الحل إنما جعلت بالأطهار .
ثم الأصل أن ابتداء حرمتها على الزوج الأول بالطهر ، فيجعل انتهاء الحرمة في مثله بالطهر . وحاصل هذا أنه جعل نهاية الحل فيه وفي غيره بما به ابتداء الحل ، فكذا يجعل نهاية الحرمة فيه وفي غيره وبما به ابتداؤه ، وإذا ثبت أن المنظور في الحل والحرمة [ في الابتداء بالابتداء ، وجب أن يكون المنظور ]{[2664]} في الحل ، والحرمة بالانتهاء .
ثم في قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وفي قوله : { فاعتزوا النساء في المحيض } [ البقرة : 222 ] ، وفي قوله : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] [ وفي نحو ]{[2665]} هذه الآيات دلالة تأخر البيان حيث لم يبين ما الإقراء ؟ ولم يبين الاعتزال من أي موضع ؟ ومن أي مكان ؟ ولم يبين المخالطة في ماذا ؟ وفي أي شيء ؟ فالاختلاق فيه باق إلى يوم التنادي ، فبطل قول من ينكر تأخر البيان ، وثبت [ قول من ]{[2666]} أقر به ، وبالله التوفيق .
وقوله : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } ؛ ففي الآية دلائل : أحدها : أن ذكر حرمة الكتمان في من آمن ليس بشرط فيه دون غيره ؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن ، إذ هو غير مؤمن ، إذ هو غير مستحسن في العقل . ففيه الدليل على لأن الحكم الموجب لعلة يحوز لزومه في ما ارتفعت عنه تلك العلة ، وعدمت . وهو كقوله : { وأصلحوا ذات بينكم [ وأطيعوا الله ورسوله ]{[2667]} إن كنتم مؤمنين } [ الأنفال : 1 ] ، وفد يلزم إصلاح ذات البين في غير الإيمان ، وكذا قوله { وذروا ما بقي من الربا إن كمنتم مؤمنين } [ البقرة : 478 ] ، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد ، وقد يجوز ذلك للمسلم في [ غير ]{[2668]} داره ، فدل أن الحكم إذا ذكر العلة{[2669]} في أحد لا يمنع لزوم ذلك في غير المذكور .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ( فيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه ، وفيه دليل إلا يحل ذلك لمن قد آمن من{[2670]} الخلق ؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق ، وفي الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط ، والله أعلم ) .
ثم اختلف في قوله : { ما خلق الله في أرحامهن } ؛ قال بعضهم : الحبل والحيض ، وكذلك روي عن علي وعبد الله [ بن مسعود وعبد الله ]{[2671]} بن عباس رضي الله عنه أنهم قالوا : { ما خلق الله في أرحامهن } الحبل والحيض ) فثبت أن موضع{[2672]} الحيض الرحم ، ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم ، فبان أن الحامل لا تحيض . وعلى ذلك قوله الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما ذلك دم عرق انقطع ) [ أبو داوود : 280 ] ؛ وهو الأمر المتعارف في النساء أن الحبل يحبس الدم . وقال بعض أهل التأويل : { ما خلق الله في أرحامهن } الحبل خاصة دون الحيض لوجهين :
أحدهما : أنهن في الجاهلية [ كن ]{[2673]} يكتمن ذلك ، فيلتحقن بغير الآباء ، فأوعدن على ذلك بعد الإسلام ، فثبت أن الحيض لا يحتمل .
والثاني : أن الحيض لا ينسب بكونه في الرحم ، فإذا كان غير منسوب إليه لم يحتمل كونه فيه ، والله أعلم .
لكن الوجه فيه ما ذكرنا من قول الصحابة ؛ وما فيه من الدلالة أنهن{[2674]} مؤتمنات في ما يخبرن لوجهين :
أحدهما : ما جاء من أن الأمانة أن تؤتمن المرأة على فرجها .
والثاني : لولا أنها ممن يقبل [ خبرها فيه لما أوعدن ]{[2675]} على الكتمان .
[ ثم يحتمل الكتمان ]{[2676]} من وجهين :
أحدهما : أن يكتمن ذلك يستوجبن به الإنفاق من عند أزوجهن بقولهن : العدة باقية{[2677]} ، وذلك يحتمل الحيض والحبل جميعا .
والثاني{[2678]} : ما قاله بعض أهل التأويل من إبقاء حق الرجعة .
ويحتمل قول أبي حنيفة ، رحمة الله ، في كتمانها ؛ إذ قال في المرأة إذا جاءت بولد في العدة ، فشهدت{[2679]} امرأة على الولادة ، والحبل لم يكن ظاهرا : ( يقبل{[2680]} قولها ، إذا أمرت بالإظهار ، والكتمان أورث تهمة في القبول ) .
ويحتمل : ألا يحل [ لهن ]{[2681]} أن يكتمن الحبل ، فيلحقن بغيرهم من الأزواج ، والله أعلم .
وقوله : { وبعولتهن أحق بردهن } يحتمل وجهين : يحتمل أنهم لا يملكن الرجعة ولا منع أزواجهن عن المراجعة ، بل ذلك إلى بعولتهن ، ويحتمل { أحق بردهن } في نكاح في العدة لا في حق الرجعة ؛ إذ الزوج يملك نكاحها في العدة ، وغيره من الناس لا يملك ، كقوله : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] .
وقوله : { وبعولتهن }{[2682]} فيه دليل أن قوله : { والمطلقات يتربصن } إنما عنى به المطلق طلاقا لم يقطع على نفسه جهة العود{[2683]} .
وقوله : { في ذلك إن أرادوا إصلاحا } يحتمل وجوها : يحتمل إصلاح ما بينهن ، ويحتمل { إن أرادوا } إمساكهن بالمعروف كقوله : { ولا تمسكوهن ضرارا } [ البقرة : 231 ] ، فهو ممسك لها ، وإن كان مضرا .
ثم الأصل في هذا أنه ، وإن قال : { فإمساك بمعروف } [ البقرة : 229 ] ، ليس على ألا يصير ممسكا لها بغير المعروف ؛ وأصل هذا أنه ليس في القول : ألا{[2684]} تفعلوا دليل الجواز ، والفساد إذ فعل ذلك .
ثم اختلف{[2685]} في قوله : { في ذلك } أي في الوقت الذي يعيد به ، أو { في ذالك } القروء ، والله أعلم .
وقوله : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي ، لأن الله تعالى يقول : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } وقال آخرون : لهن من الكفاف ما عليهن من الخدمة وقال غيرهم : لهن من الحق في المهور بتسليم الأزواج إليهن ما عليهن من تسليم البضاع{[2686]} إلى الأزواج . فيدل هذا على أن الخلوة والتسليم منها يحل محل قبض الحق منها لزوجها ، وقيل : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } الحقوق : ما تلزمهن من حقوق الأزواج ، [ يلزم مثلها على [ الأزواج لهن{[2687]} ]{[2688]} ، وإن كانت مختلفة .
وقوله : { وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم } ؛ قيل : [ هي الطلاق ]{[2689]} بيد الرجال وليس بيدها ، وقيل : هي الإمارة والأمر ، وقيل : هي ما فضل الله به عليها من الجهاد والميراث وغيره ، وقيل : [ هي ]{[2690]} لهم من الفضيلة من الولايات والشهادات والعقل ، وذلك ليس لهن ، وقيل : [ هي ]{[2691]} فضيلة في الحق وبما ساق إليها من المهر .
وقال{[2692]} الشيخ أبو منصور ، رحمة الله ، في قوله : { ولهن مثل الذي عليهن } أي من الحقوق على الأزواج ) . ثم تحتمل حقوقهن المهر والنفقة ، وتحتمل ما أتبع من قوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وتحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار ؛ وعليها من الحقوق مقابل الأول البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدا ، ومقابل الثاني أن يحسن إليهم في البر واللسان والقول بالمعروف الذي فيه تطيب نفسه به كما وصف الحميدة منهن : ( من إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا دعوتها أجابتك ، [ وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) ]{[2693]} [ ابن ماجه : 1857 ] ، ومقابل الثالث ألا تتلقاه بمكروه ، ولا تقابله بما{[2694]} يضجره ، ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه ، والله أعلم . والدرجة التي ما له من الملك فيها والفضل في الحقوق عليها وما جعل قواما عليها{[2695]} وغير ذلك ، والله أعلم .
ويحتمل ما لهن من قوله : { فإمساك بمعروف أو تشريح بإحسان } وعليهن بذل حقهم المعروف والإحسان إليهم في ما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت مع حفظ ماله عندها ، والله أعلم .