فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

( والمطلقات ) أي المخليات من حبال أزواجهن ، والمطلقة هي التي أوقع الزوج عليها الطلاق ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) تمضي من حين الطلاق تدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول ، ثم خصصت بقوله تعالى ( فمالكم عليهن من عدة تعتدونها ) فوجب بناء العام على الخاص ، وخرجت من هذا العموم المطلقة قبل الدخول ، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) وكذلك خرجت الآية بقوله تعالى ( فعدتهن ثلاثة أشهر ) ؛ والتربص الانتظار قيل هو خبر في معنى الأمرأي لتتربص قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه وزاده تأكيدا وقوعه للمبتدأ .

قال ابن العربي : وهذا باطل وإنما هو خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس ذلك من الشرع ، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره .

والقروء{[212]} جمع قرء ، قال الأصمعي : الواحد القرء بضم القاف ، وقال أبو زيد بالفتح وكلاهما قال : أقرأت المرأة حاضت وأقرأت طهرت ، وقال الأخفش : أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت قرأت بلا ألف .

وقال أبو عمرو بن العلاء : من العرب من يسمي الحيض قرأ ، ومنهم من يسمي الطهر قرأ ، ومنهم من يجمعهما جميعا فيسمي الحيض مع الطهر قرأ .

وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل الوقت يقال هبت الرياح لقرئها ولقارئها أي لوقتها فيقال للحيض قرء وللطهر قرء لأن كل واحد منهما له وقت معلوم ، وقد أطلقته العرب تارة على الطهر وتارة على الحيض .

وقال قوم مأخوذ من قرأ الماء في الحوض وهو جمعه ، ومنه ( القرآن ) لاجتماع المعاني فيه .

والحاصل أن القرء في لغة العرب مشترك بين الحيض والطهر ، ولأجل ذلك الاشتراك اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية فقال أهل الكوفة : هي الحيض ، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدى وأحمد بن حنبل ، وقال أهل الحجاز : هي الإطهار : وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي .

واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت فصار معنى الآية عند الجميع والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات ، فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود ، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في الآية الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام إقرائك{[213]} " وبقوله صلى الله عليه وسلم : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان{[214]} " و بأن المقصود من العدة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر .

واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى ( فطلقوهن لعدتهن ) ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر ، وبقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء{[215]} " وذلك لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء .

قال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بأن الإقراء هو الإطهار فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدة انتهى .

وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعا :

أما قول الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دعي الصلاة أيام إقرائك " فغاية ما في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإقراء على الحيض ، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك فإنه يطلق تارة على هذا وتارة على هذا ، وإنما النزاع في الإقراء المذكور في هذه الآية .

و أما قوله صلى الله عليه وسلم في الأمة : " وعدتها حيضتان " فهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدا رقطني والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعا ، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا أيضا ، ودلالته على ما قاله الأولون قوية{[216]} .

و أما قولهم : إن المقصود من العدة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر ، فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدة شئ من الحيض على فرض تفسير الإقراء بالاطهار ، وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض كما هي مشتملة على الاطهار .

و أما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى ( فطلقوهن لعدتهن ) فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله : ( لعدتهن ) يصير ذلك محتملا ولا تقوم به الحجة .

و أما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " مره فليراجعها{[217]} " الحديث فهو في الصحيح ودلالته قوية على ما ذهبوا اليه ، ويمكن أن يقال إنها تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض ولا مانع من ذلك فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه ، وبذلك يجمع بين الأدلة ويرتفع الخلاف ويندفع النزاع .

وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله : وقروء هي جمع كثرة دون الاقراء التي هي من جموع القلة ، وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية .

( و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) قيل المراد به الحيض وقيل الحمل وقيل كلاهما ، ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج وإذهاب حقه ، فإذا قالت المرأة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع ، وإذا قالت هي لم تحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به ، وكذلك الحمل ربما تكتمه لتقطع حقه من الارتجاع وربما تدعيه لتوجب عليه النفقة ، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج .

وقد اختلفت الأقوال في المدة التي تصدق فيها المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها وفيه دليل على قبول قولهن في ذلك نفيا وإثباتا .

( إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ) فيه وعيد شديد للكاتمات ، وبيان أن من كتمت ذلك منهن لم تستحق اسم الإيمان ، وهذا الشرط ليس للتقييد بل للتغليظ حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضا .

( وبعولتهن ) البعولة جمع بعل وهو الزوج سمي بعلا لعلوه على الزوجة لأنهم يطلقونه على الرب ، ومنه قوله تعالى ( أتدعون بعلا ) أي ربا ، ويقال بعول وبعولة كما يقال في جمع الذكر ذكور وذكورة ، وهذه التاء لتأنيت الجمع وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع ، والبعولة أيضا يكون مصدرا من بعل الرجل يبعل مثل منع يمنع أي صار بعلا ، والتقدير أهل بعولتهن ، واستفيد من هذا أن البعولة لفظ مشترك بين المصدر والجمع .

( أحق بردهن ) أي برجعتهن وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) لأنه يعم المثلثات وغيرهن ، وصيغة التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة والمرأة تأباها وجب إيثار قوله على قولها ، وليس معناه أن لها حقا في الرجعة ، قاله أبو السعود .

( في ذلك ) يعني في مدة التربص ، فإن انقضت مدة التربص فهي أحق بنفسها ولا تحل له إلا بنكاح مستأنف بولي وشهود ومهر جديد ، ولا خلاف في ذلك ، والرجعة تكون باللفظ وتكون بالوطء ولا يلزم المراجع شئ من أحكام النكاح بلا خلاف .

( إن أرادوا إصلاحا ) أي بالمراجعة أي إصلاح حاله معها وحالها معه ، فإن قصد الإضرار بها فهي محرمة لقوله تعالى ( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) قيل وإذا قصد بالرجعة الضرار فهي صحيحة وإن ارتكب به محرما وظلم نفسه ، و على هذا فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج على قصد الصلاح والزجر لهم عن قصد الضرار ، وليس المراد به جعل قصد الصلاح شرطا لصحة الرجعة .

( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) أي ولهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما عليهن فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم ، وهي كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهن يفعلنه لأزواجهن من طاعة وتزين وتحبب ونحو ذلك .

قال ابن عباس في الآية : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن الله قال ( ولهن ) الخ ، قال الكرخي : أي من الوجوب لا في الجنس فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل ذلك ، وقيل في مطلق الوجوب لا في عدد الأفراد ولا في صفة الواجب .

( وللرجال عليهن درجة ) أي منزلة ليست لهن وهي قيامه عليها في الانفاق وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوة ، وله من الميراث أكثر مما لها ، وكونه يجب عليها امتثال أمره والوقوف عند رضاه والشهادة والدية وصلاحية الإمامة و القضاء ، وله أن يتزوج عليها ويتسرى ، وليس لها ذلك ، وبيده الطلاق والرجعة وليس شئ من ذلك بيدها ، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهن خلقهن من الرجال لما ثبت أن حواء خلقت من ضلع آدم لكفى .

و قد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الاحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا ، أما حقكم على نسائكم أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا اليهن في كسوتهن وطعامهن{[218]} " وصححه الترمذي وأصله عند مسلم في الصحيح .

وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تهجر إلا في البيت{[219]} " .

وعن ابن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثم رجع فرأى رجالا يسجد بعضهم لبعض ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها{[220]} " ، رواه البغوي بسنده .

( والله عزيز ) يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه ( حكيم ) يطوي شرائعه على الحكم والمصالح .


[212]:القروء: جمع قرء( مجمل اللغة لابن فارس،باب القاف والراء وما يثلثهما،2/750؛تحقيق زهير عبد المحسن سلطان ،اطبعة مؤسسة الرسالة- بيروت).
[213]:ابو داود كتاب الطهارة باب 107.
[214]:ضعيف الجامع الصغير 3652.والصواب وقفه على ابن عمر(وعن عائشة مرفوعا:"طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره"رواه الدارقطني) 2/242. وهو ضعيف. أخرجه الدارقطني(441) وعنه والبيهقي (7/239-370،426). أما "طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان". أخرجه أبو داود(2189)والترمذي(1/222) وابن ماجه(2080) والدار قطني والحاكم (2/205) والبيهقي والخطابي في "غريب الحديث"(ق 152/2)وقال أبو داود: "وهو حديث مجهول". وقال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر،ولا نعرف له غير هذا الحديث".
[215]:مسلم 1471.
[216]:رواه الحاكم في مستدركه باب الطلاق2/205 بلفظ:"وقرؤها حيضتان".
[217]:مسلم 1470.
[218]:الترمذي،كتاب الرضاعة باب 11.
[219]:المستدرك،كتاب النكاح2/188.
[220]:صحيح الجامع الصغير 5115.