قوله تعالى :{ وما أبرئ نفسي } من الخطأ والزلل فأزكيها ، { إن النفس لأمارة بالسوء } ، بالمعصية { إلا ما رحم ربي } ، أي : إلا من رحم ربي فعصمه ، " ما " بمعنى " من " كقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } [ النساء-3 ] أي : من طاب لكم ، وهم الملائكة ، عصمهم الله عز وجل فلم يركب فيهم الشهوة . وقيل : إلا من رحم ربي إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان . { إن ربي غفور رحيم } ، فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه ، اشتاق لرؤيته وكلامه ، وذلك معنى قوله تعالى إخبارا عنه : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } .
ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها ، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف ، استدركت فقالت : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } أي : من المراودة والهمِّ ، والحرص الشديد ، والكيد في ذلك . { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } أي : لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء ، أي : الفاحشة ، وسائرالذنوب ، فإنها مركب الشيطان ، ومنها يدخل على الإنسان { إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } فنجاه من نفسه الأمارة ، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها ، منقادة لداعي الهدى ، متعاصية عن داعي الردى ، فذلك ليس من النفس ، بل من فضل الله ورحمته بعبده .
{ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي ، إذا تاب وأناب ، { رَحِيمٌ } بقبول توبته ، وتوفيقه للأعمال الصالحة ، . وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف ، فإن السياق في كلامها ، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر .
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن النفس تتحدث{[15204]} وتتمنى ؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء ، { إِلا مَا{[15205]} رَحِمَ رَبِّي } أي : إلا من عصمه الله تعالى ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[15206]} .
وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام . وقد حكاه الماوردي في تفسيره ، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تَيميَّة ، رحمه الله ، فأفرده بتصنيف على حدة{[15207]} وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف ، عليه السلام ، من قوله : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته { بِالْغَيْبِ } الآيتين أي : إنما رَدَدْتُ الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته { بِالْغَيْبِ } { وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ الآية ]{[15208]} وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن : هل راودتن يوسف عن نفسه ؟ { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } قَالَ يُوسُفُ { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ] } {[15209]} قال : فقال له جبريل ، عليه السلام : ولا يوم هممت بما هممت به . فقال : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }{[15210]} وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعكرمة ، وابن أبي الهُذَيل ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدي . والقول الأول أقوى وأظهر ؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف ، عليه السلام ، عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك .
وقوله تعالى : { وما أبرىء نفسي } الآية ، هذه أيضاً مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة ، حسب التي قبلها :
فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك : عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما قال يوسف : { أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل : ولا حين هممت وحللت سراويلك{[6727]} ، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك . وروي أن المرأة قالت له ذلك ، قاله السدي ، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال : { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } ، قاله ابن عباس أيضاً .
ومن قال : إن المرأة قالت { وما أبرىء نفسي } فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات ، كأنها قالت : وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرئ أنا منه نفسي ، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه .
و { أمارة } بناء مبالغة ، و { ما } في قوله : { إلا ما رحم } مصدرية ، هذا قول الجمهور فيها ، وهو على هذا . استثناء منقطع ، أي إلا رحمة ربي{[6728]} ، ويجوز أن تكون بمعنى «من » ، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع ، كذا قال أبو علي ، فتقدير الآية : إلا النفوس التي يرحمها الله .
قال القاضي أبو محمد : وإذن النفس اسم جنس ، فصح أن تقع { ما } مكان «من » إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه ، وهو نص في كلام المبرد ، وهو - عندي - معنى كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي علي - ذكره في البغداديات .
ويجوز أن تكون { ما } ظرفية ، المعنى : أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.