{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ، قال نافع : مع محمد وأصحابه . وقال سعيد ابن جبير : مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما . وقال ابن جريج : مع المهاجرين ، لقوله تعالى : { للفقراء المهاجرين } إلى قوله { أولئك هم الصادقون } [ الحشر -8 ] وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية . وقيل : مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة . وكان ابن مسعود يقرأ : " وكونوا مع الصادقين " وقال ابن مسعود : إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له ، اقرؤا إن شئتم وقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } .
{ 119 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }
أي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } باللّه ، وبما أمر اللّه بالإيمان به ، قوموا بما يقتضيه الإيمان ، وهو القيام بتقوى اللّه تعالى ، باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه .
{ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، الذين أقوالهم صدق ، وأعمالهم ، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خلية من الكسل والفتور ، سالمة من المقاصد السيئة ، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة .
قال الله تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } الآية .
أي : اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم ، ومخرجا ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن شقيق{[13984]} ؛ عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا " .
أخرجاه في الصحيحين . {[13985]} وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : [ إن ]{[13986]} الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ } {[13987]} - هكذا قرأها - ثم قال : فهل تجدون لأحد فيه رخصة .
وعن عبد الله بن عمر : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقال الضحاك : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما . {[13988]} وقال الحسن البصري : إن أردت أن تكون مع الصادقين ، فعليك بالزهد في الدنيا ، والكف عن أهل الملة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرّفهم سبيل النجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه وتجنب حدوده ، وكونوا في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته ، تكونوا في الاَخرة مع الصادقين في الجنة . يعني مع من صدق الله الإيمان به فحقق قوله بفعله ولم يكن من أهل النفاق فيه الذين يكذّب قيلهم فعلهم .
وإنما معنى الكلام : وكونوا مع الصادقين في الاَخرة باتقاء الله في الدنيا ، كما قال جلّ ثناؤه : وَمَنْ يُطِعِ اللّهِ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ والصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ .
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام ، لأن كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم إن لم يكن عاملاً عملهم ، وإذا عمل عملهم فهو منهم ، وإذا كان منهم كان لا وجه في الكلام أن يقال : اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال : معناه : وكونوا مع أبي بكر وعمر ، أو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين رحمة الله عليهم . ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع ، في قول الله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حبويه أبو يزيد ، عن يعقوب القمي ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع ، قال : قيل للثلاثة الذين خلفوا : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ محمد وأصحابه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رحمة الله عليهم .
قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم الرماني ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع المهاجرين الصادقين .
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه : «وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ » ويتأوّله أن ذلك نهي من الله عن الكذب . ذكر الرواية عنه بذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول : قال ابن مسعود : إن الكذب لا يحلّ منه جدّ ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ » قال : وكذلك هي قراءة ابن مسعود : «من الصادقين » ، فهل ترون في الكذب رخصة ؟
قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت أبا عبيدة ، عن عبد الله ، نحوه .
قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت أبا عبيدة يحدّث ، عن عبد الله قال : الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ » وهي كذلك في قراءة عبد الله ، فهل ترون من رخصة في الكذب ؟
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : لا يصلح الكذب في هزل ولا جدّ ، ثم تلا عبد الله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا ما أدري أقال «مِنَ الصّادِقِينَ » أو مَعَ الصّادِقِينَ وهو في كتابي : مَعَ الصّادِقِينَ .
قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله ، مثله .
قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، مثله .
والصحيح من التأويل في ذلك هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك ، وذلك أن رسوم المصاحف كلها مجمعة على : وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحد القراءة بخلافها ، وتأويل عبد الله رحمة الله عليه في ذلك على قراءته تأويل صحيح غير ، أن القراءة بخلافها .
الظاهر أن هذه الآية خاتمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد . ففي « صحيح البخاري » من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال : « فوالله ما أعلم أحداً . . . أبْلاه الله في صدق الحديث أحسنَ مما أبْلاني ما تعمدتُ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً وأنزل الله على رسوله { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله { وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 117 119 ] اه . فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم ، وذِكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذباً فغضب الله عليهم ، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم ، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة .
والأمر ب { كونوا مع الصادقين } أبلغ في التخلق بالصدق من نحو : اصدقوا . ونظيره { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] . وكذلك جَعله بعد ( من ) التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { أبى واستكبر وكان من الكافرين } [ البقرة : 43 ] ومنه قوله : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرّفهم سبيل النجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه:"يا أيها الذين آمنوا" بالله ورسوله، "اتقوا الله "وراقبوه بأداء فرائضه وتجنب حدوده، "وكونوا" في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته، تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة، يعني مع من صدق الله الإيمان به فحقق قوله بفعله ولم يكن من أهل النفاق فيه الذين يكذّب قيلهم فعلهم.
وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا، كما قال جلّ ثناؤه: "وَمَنْ يُطِعِ اللّهِ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ والصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ".
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام، لأن كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم إن لم يكن عاملاً عملهم، وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم كان لا وجه في الكلام أن يقال: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين رحمة الله عليهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في ظاهر الآية أن قومًا عرفوا بالصدق فأمروا بالكون معهم، ويشبه أن يكون أمر هَؤُلَاءِ الذين تخلفوا عن رسول اللَّه بالكون مع المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع رسول اللَّه.
وفيه دلالة على أن الإجماع حجة؛ لأنه أمر بالكون مع الصادقين في دين اللَّه، فلو لم يلزمهم قبول قولهم لم يكن للأمر بالكون معهم وجه.
وقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ): يحتمل وجوهًا:
أحدها: يقول: احفظوا اللَّه في حقه ولا تضيعوه، وكونوا مع الصادقين في وفاء ذلك وحفظه. أو: اتقوا اللَّه فيما نزل ما امتحنكم به من الخروج والجهاد مع رسول اللَّه وغير ذلك من المحن. أو يقول: اتقوا مخالفة اللَّه ورسوله فيما يأمركم به، وكونوا مع الموافقين لأمره، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يا أيها الذين آمَنُوا في الحال كونوا في آخر أحوالكم مع الصادقين؛ أي استديموا الإيمان. استديموا في الدنيا الصدقَ تكونوا غداً مع الصادقين في الجنة. ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.ويقال الصدق نهاية الأحوال، وهو استواءُ السِّرِّ والعلانية، وذلك عزيز...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فيه دلالة على التأمل في الأقوال، وأن لا نتبع منها إلا ما دلت الدلالة عليه، وبان صدقه، فأما أن نأخذ تقليداً دون أن نعلم صدقه فلا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين، فجاء هذا الأمر اعتراضاً في أثناء الكلام إذ عنَّ في القصة ما يجب التنبيه على امتثاله، وقال ابن جريج وغيره: الصدق في هذه الآية هو صدق الحديث، وقال نافع والضحاك ما معناه: إن اللفظ أعم من صدق الحديث، وهو بمعنى الصحة في الدين والتمكن في الخير، كما تقول العرب: عود صدق ورجل صدق...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الصَّادِقِينَ:
وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: إِنَّهُمْ الَّذِينَ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ...} إلَى قَوْله تَعَالَى {الْمُتَّقُونَ}.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ الْمُهَاجِرُونَ؛ وَقَدْ رُوِيَ -كَمَا قَدَّمْنَا- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ: إنَّ اللَّهَ سَمَّانَا الصَّادِقِينَ؛ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ...} إلَى قَوْله تَعَالَى {هُمْ الصَّادِقُونَ}. ثُمَّ سَمَّاكُمْ الْمُفْلِحِينَ، فَقَالَ: {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ...} الآية. وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّادِقِينَ هُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُخَاطَبُونَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ من أَهْلِ الْكِتَابِ.
الْخَامِسُ: الصَّادِقُونَ هُمْ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.
السَّادِسُ: -هُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابُهُ- يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ؛ أَوْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ السَّابِعُ.
الثَّامِنُ: هُمْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْغَايَةُ الَّتِي إلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، وَبِهَا يَرْتَفِعُ النِّفَاقُ فِي الْعَقِيدَةِ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْفِعْلِ، وَصَاحِبُهَا يُقَالُ لَهُ صِدِّيقٌ، وَهِيَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَنْ دُونَهُمَا عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالثَّانِي: فَهُوَ مُعْظَمُ الصِّدْقِ، وَمَنْ أَتَى الْمُعَظَّمَ فَيُوشِكُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْأَقَلُّ، وَهُوَ مَعْنَى الْخَامِسِ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ ذِكْرُهُ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَهُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ فَصَحِيحٌ وَهُوَ بَعْضُهُ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَالسَّادِسُ: تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
وَالسَّابِعُ: يَكُونُ الْمُخَاطَبُ الثَّمَانِينَ رَجُلًا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَاعْتَذَرُوا وَكَذَبُوا، أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الثَّلَاثَةِ الصَّادِقِينَ؛ وَيَدْخُلُ هَذَا فِي جُمْلَةِ الصِّدْقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}:
قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ التَّقْوَى، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا فِيهَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتَلَقُوا الْكَذِبَ.
وَالثَّانِي: فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، وَهُمَا بَعْضُ التَّقْوَى، وَالصَّحِيحُ عُمُومُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَاذِبِ وَلَا شَهَادَتُهُ.
قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَاذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ وَإِنْ صَدَقَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْبَلُ حَدِيثُهُ، وَالْقَبُولُ فِيهِ مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَوِلَايَةٌ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ كَرُمَتْ خِصَالُهُ، وَلَا خَصْلَةَ هِيَ أَشَرُّ مِنَ الْكَذِبِ، فَهِيَ تَعْزِلُ الْوِلَايَاتِ، وَتُبْطِلُ الشَّهَادَاتِ.
واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في مخالفة أمر الرسول {وكونوا مع الصادقين} يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت...
إنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت، وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل، ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل، وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين. فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
رغب سبحانه في الصدق فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {اتقوا الله} أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه {وكونوا} أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة {مع الصادقين} أي في كل أمر يطلب منهم، ولعله أخرج الأمر مخرج العموم ليشمل كل مؤمن، فمن كان مقصراً كانت آمرة له باللحاق، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق، ولعله عبر ب {مع} ليشمل أدنى الدرجات، وهو الكون بالجثث...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ} باتباع ما أمر به بقدر الاستطاعة، وترك ما نهى عنه، وبين تحريمه مطلقا.
{وكونوا مع الصادقين} أي مع جماعة الصادقين أو منهم (وفاقا لقراءة ابن مسعود وقد تكون تفسيرا)، دون المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤدونه بالحلف. والصادقون هم المعتصمون بالصدق والإخلاص في جهادهم إذا جاهدوا، وفي عهودهم إذا عاهدوا، وفي أقوالهم ووعودهم إذا حدّثوا ووعدوا، وفي توبتهم إذا أذنبوا أو قصروا، والمنافقون ضدهم في ذلك وغيره.
تقدم في آخر حديث كعب بن مالك المتفق عليه أن هذه الآية نزلت فيه وفي أصحابه بما صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينتحلوا لأنفسهم عذرا كاذبا في التخلف عن النفر معه. وبه قال نافع والسدي. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (وكونوا مع الصادقين) مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعاً أن يتقوا اللّه ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين. ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً، إلا كتب لهم، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون).. إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة، فهم أهلها الأقربون. وهم بها ولها. وهم الذين آووا رسول اللّه -[ص]- وبايعوه؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله. وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة.. فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه.. وحين يخرج رسول اللّه -[ص]- في الحر أوالبرد. في الشدة أو الرخاء. في اليسر أو العسر. ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها، فإنه لا يحق لأهل المدينة، أصحاب الدعوة، ومن حولهم من الأعراب، وهم قريبون من شخص رسول اللّه -[ص]- ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا، أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول اللّه [ص]. من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا اللّه وأن يكونوا مع الصادقين، الذين لم يتخلفوا، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع.. وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الظاهر أن هذه الآية خاتمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد...فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة. والأمر ب {كونوا مع الصادقين} أبلغ في التخلق بالصدق من نحو: اصدقوا. ونظيره {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الصدق أخص ما امتاز به الثلاثة الذين خلفوا في الأرض، وكانوا صفوة الله ورسوله، رحض خطأ التخلف عن نفوسهم، ولقد صبروا على الاختبار، وصقلت نفوسهم، حتى قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحدهم:"إنك منذ الليلة عدت كما ولدتك أمك"، لذلك كان يناسب هؤلاء أن يكون الأمر العام بالصدق ليرتفع كل مؤمن إلى هذه المرتبة التي تولى الله تعالى تربيتهم، ومن يتولى الله تربيته يحسن هذه التربية، ويكون ربانيا. يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين 119} اقترن الأمر بالتقوى مع الأمر بالصدق والدخول في زمرة الصادقين؛ لأن التقوى هي امتلاء النفس بخشية الله تعالى، والوقاية مما يغضبه ولا يرضيه، فهي وقاية من العذاب، ومن هذه الوقاية طلب الرضا، فلا يقي من غضب الله إلا طلب رضاه بطاعته ومحبته وعبادته، وإن الصدق طريقها، وهما معا، "ولقد سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: يكون، فقيل أيكون بخيلا؟ قال صلى الله عليه وسلم يكون: فقيل: أيكون كذابا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا يكون المؤمن كذابا "وقال في الأمر بالصدق.. {وكونوا مع الصادقين}...و (أل) للاستغراق تشمل كل صادق من المؤمنين، فلا يقصد جمع معين؛ لأنه لا عهد لأن يعين ذلك الجمع، فاللفظ يكون على عمومه، وتكون للاستغراق وعموم أصل الصدق الذين يصير الصدق وصفا ملازما لهم..
وقوله تعالى: {وكونوا مع الصادقين} يفيد أن الله تعالى يحث المؤمن على أن يعيش في بيئة يكون فيها الصدق سائدا، والبر مسيطرا، فإن فساد البيئة الفكرية والخلقية يؤدي إلى عموم الفساد، والبيئة الصالحة، تهذب آحادها، وتجعل الشر يختفي والخير يظهر، وظهور الخير يدعو إليه، وظهور الشر يحرض عليه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الصَّادِقِينَ}: الصادق: هو القائل بالحق العامل به.
إنها الدعوة الدائمة التي يريد الله أن يستثير فيها مشاعر الإيمان في أعماق الإنسان المؤمن، ليعيش الإيمان فكراً وشعوراً يدفعه إلى التقوى في أفعاله وتروكه وفي جميع مواقفه، لأن ذلك هو معنى الإيمان الذي يعني الشعور بحضور الله الخالق القويّ القادر في وجدانه، وفي حسّه وضميره وحركة حياته، فلا معنى للإيمان بدون تقوى، لأنه يتحول إلى حالةٍ عقليّةٍ جامدة لا تغيِّر منه شيئاً ولا تعني له أيّ شيء، تماماً كما هي المعادلات العقلية التجريديّة التي لا علاقة لها بالحياة، فلا بدّ من التقوى التي تعمّق معنى الإيمان في الداخل.
ثم هناك الانتماء إلى المجتمع الذي يجعل الفرد جزءاً من كل، ويحوّله إلى عضو عامل في جسم متكامل. فما هو هذا المجتمع، الذي قد يكون خليّةً أو منظّمةً أو حزباً أو حركةً أو أيّ شيء مما تعارف الناس على اعتباره إطاراً للوحدة الاجتماعية أو السياسيّة للعمل؟ فقد يكون المجتمع مجتمع الانحراف الذي يكذب أفراده على الناس وعلى الله وعلى أنفسهم، وقد يكون المجتمع مجتمع الاستقامة الذي يصدق أفراده مع الناس ومع الله ومع أنفسهم. فكيف يواجه المؤمنون الموقف، وفي أيّ مجتمع يعيشون، وإلى أيّ فريقٍ ينتمون؟ إ
ن الله يُحدّد للمؤمنين الخط والفريق والمجتمع، ليتحقق لهم الانسجام بين خط الإيمان وحركة الواقع وأجواء المجتمع.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} وعاشوا الإيمان في فكرهم وشعورهم وحياتهم {اتَّقُواْ اللَّهَ} في أقوالكم وأعمالكم ومواقفكم وكل علاقاتكم {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} الذين يعيشون الحياة صدقاً في الفكر والعاطفة والحركة، بعيداً عن كل ازدواجيّةٍ في المواقف، أو انحراف عن الفكر، أو ارتباك في الخطوات، فلا مجال للانسجام مع الكاذبين الذين يحوّلون الحياة إلى ساحةٍ للباطل في الشعارات والمواقف، ويلفّون ويدورون ويلعبون على الحياة من موقع الشيطنة الباحثة أبداً عن الشرّ، المتحركة أبداً مع الضلال.
الحذر من الانتماء إلى جماعات الضلال:
وقد نستوحي من هذا النداء، أن الله يرفض للإنسان أن ينتمي إلى أحزاب الكفر والضلال التي تعيش الباطل في أفكارها وخطواتها العملية في الحياة، فإنها لا تمثل خط الصدق في موقفها، حتى لو آمنت واعتقدت به، لأن القضية في ذلك ليس بانسجامها مع ما تعتقده، بل القضية هي انسجام ما تعتقده مع خط الحق، كما أن الله يرفض للإنسان أن ينتمي بالمودّة أو بالمواقف إلى الذين يقولون ما لا يفعلون، لأن الله يمقت أمثال هؤلاء أكبر المقت. وفي ضوء هذا، قد يشعر الإنسان بالحاجة إلى التدقيق في ما يُعرض عليه من حالات الانتماء إلى هذا الفريق أو ذاك، ليدرس شخصية الفكر والأسلوب والهدف والقيادة والممارسة، ليحدّد موقعه من ذلك كله، قبل أن يوافق على السير مع هذه الجهة أو تلك سلباً أو إيجاباً، لأن ذلك هو الذي يحفظ له مستقبله من الانهيار، وخطواته من الزلل، وهو الذي يحفظ للمجتمع المؤمن سلامته وانسجامه مع خط الإيمان وفكره، على صعيدي النظرية والتطبيق...