الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (119)

فيه مسألتان :

الأولى - قوله تعالى : " وكونوا مع الصادقين " هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين . قال مطرف : سمعت مالك بن أنس يقول : قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ، ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف . واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال . فقيل : هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب . وقيل : هو خطاب لجميع المؤمنين ، أي اتقوا مخالفة أمر الله " وكونوا مع الصادقين " أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين . أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم . وقيل : هم الأنبياء ، أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة . وقيل : هم المراد بقوله : " ليس البر أن تولوا وجوهكم{[8369]} - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا " [ البقرة : 177 ] . وقيل : هم الموفون بما عاهدوا ؛ وذلك لقوله تعالى : " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه{[8370]} " وقيل : هم المهاجرون ؛ لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال : " للفقراء المهاجرين{[8371]} " [ الحشر : 8 ] الآية ، ثم سماكم بالمفلحين فقال : " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " [ الحشر : 9 ] الآية . وقيل : هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم . قال ابن العربي : وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم . وأما من قال : إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ومتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب . وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها ، فإن جميع الصفات فيهم موجودة .

الثانية - حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال ، والإخلاص في الأعمال ، والصفاء{[8372]} ، في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار ، قال صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) . والكذب على الضد من ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) خرجه مسلم . فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة ، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها . قال معمر : لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس . وسئل شريك بن عبدالله فقيل له : يا أبا عبدالله ، رجل سمعته{[8373]} يكذب متعمدا أأصلي خلفه ؟ قال لا . وعن ابن مسعود قال : إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه ، اقرؤوا إن شئتم " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " هل ترون في الكذب رخصة ؟ وقال مالك : لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال غيره : يقبل حديثه . والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه ، فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات .


[8369]:راجع ج 2 ص 237.
[8370]:راجع ج 14 ص.
[8371]:راجع ج 18 ص 19.
[8372]:من ع: وهو الصواب وفي ب و ك وهـ : الصفات وهو خطأ.
[8373]:في ع: سمعناه.