{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ } أي : العاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم جزاء { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي } عليه في الدنيا وراقب الله مراقبة من يعلم أنه يراه ، { وَخَافَ وَعِيدِ } أي : ما توعدت به من عصاني فأوجب له ذلك الانكفاف عما يكرهه الله والمبادرة إلى ما يحبه الله .
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم ، من الإخراج من أرضهم ، والنفي من بين أظهرهم ، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] ، وقال قوم لوط : { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] ، وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 76 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] .
وكان{[15776]} من صنعه تعالى : أنه أظهر رسوله ونصره ، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارًا وأعوانًا وجندا ، يقاتلون في سبيل الله ، ولم يزل يرقيه [ الله ]{[15777]} تعالى من شيء إلى شيء ، حتى فتح له مكة التي أخرجته ، ومكن له فيها ، وأرغم آناف أعدائه منهم ، و[ من ]{[15778]} سائر [ أهل ]{[15779]} الأرض ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان ، في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ } كما قال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، وقال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ{[15780]} عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقال : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] ،
{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } أي : وعيدي{[15781]} هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة ، وخشي من وعيدي ، وهو تخويفي وعذابي ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 37 - 41 ] ، وقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] .
وقوله : وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا وعد من الله مَن وَعَد من أنبيائه النصر على الكفرة به من قومه ، يقول : لما تمادت أمم الرسل في الكفر ، وتوعّدوا رسلهم بالوقوع بهم ، أوحى الله إليهم بإهلاك من كفر بهم من أممهم ووعدهم النصر . وكلّ ذلك كان من الله وعيدا وتهديدا لمشركي قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على كفرهم به وجراءتهم على نبيه ، وتثبيتا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرا له بالصبر على ما لقي من المكروه فيه من مشركي قومه ، كما صبر من كان قبله من أولي العز من رسله ، ومعرّفَهُ أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك وعاقبته النصر عليهم ، سُنّةَ اللّهِ في الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيدُ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَنُسْكنَنّكُمْ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ قال : وعدهم النصر في الدنيا ، والجنة في الاَخرة .
وقوله : ذلكَ لِمَنْ خافَ مَقامي وَخافَ وَعِيدِ يقول جلّ ثناؤه : هكذا فِعْلى لمن خاف مقامه بين يديّ ، وخاف وعيدي فاتقاني بطاعته وتجنب سخطي ، أنصره على من أراد به سوءا وبغاه مكروها من أعدائي ، أُهلك عدوّه وأخزيه وأورثه أرضه ودياره . وقال : لِمَنْ خافَ مَقامي ومعناه ما قلت من أنه لمن خاف مقامه بين يديّ بحيث أقيمه هنالك للحساب ، كمَا قال : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ معناه : وتجعلون رزقي إياكم أنكم تكذبون ، وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : قد سررت برؤيتك وبرؤيتي إياك ، فكذلك ذلك . )
وقوله : { لنسكننكم } الخطاب للحاضرين ، والمراد هم وذريتهم ، ويترتب هذا المعنى في قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } [ إبراهيم : 10 ] أي يؤخركم وأعقابكم .
وقرأ أبو حيوة : «ليهلكن » و «ليسكننكم » بالياء فيهما{[7029]} .
وقوله : { مقامي } يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة ، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة ، فإضافته - إذا كان مصدراً - إضافة المصدر إلى الفاعل ، وإضافته - إذا كان ظرفاً - إضافة الظرف إلى حاضره ، أي مقام حسابي ، فجائز قوله : { مقامي } وجائز لو قال : مقامه ، وجائز لو قال : مقام العرض والجزاء ، وهذا كما تقول : دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم .
وقال أبو عبيدة : { مقامي } مجازه ، حيث أقيمه بين يدي للحساب{[7030]} ، و «الاستفتاح » طلب الحكم ، والفتاح : الحاكم ، والمعنى : أن الرسل استفتحوا ، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة ، ويل : بل استفتح الكفار ، على نحو قول قريش { عجل لنا قطنا }{[7031]} [ ص : 16 ] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة{[7032]} . هذا قول أبي زيد .