ثم رجع إلى الكفار مكة فقال :{ وألو استقاموا على الطريقة } اختلفوا في تأويلها ، فقال قوم : لو استقاموا على طريقة الحق والإيمان والهدى فكانوا مؤمنين مطيعين ، { لأسقيناهم ماءً غدقاً } كثيراً ، قال مقاتل : وذلك بعدما رفع عنهم المطر سبع سنين . وقالوا معناه لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا وأعطيناهم مالاً كثيراً وعيشاً رغداً ، وضرب الماء الغدق مثلاً ، لأن الخير والرزق كله في المطر ، كما قال : { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم }الآية ( المائدة- 66 ) . وقال : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء } الآية ( الأعراف-96 ) .
وقوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين :
أحدهما : وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها ، { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : كثيرًا . والمراد بذلك سَعَة الرزق . كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ المائدة : 66 ] وكقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الأعراف : 96 ] وعلى هذا يكون معنى قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
أي : لنختبرهم ، كما قال مالك ، عن زيد بن أسلم : { لِنَفْتِنَهُمْ } لنبتليهم ، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية ؟ .
ذكر من قال بهذا القول : قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يعني بالاستقامة : الطاعة . وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } قال : الإسلام . وكذا قال سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والسدي ، ومحمد بن كعب القرظي .
وقال قتادة : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا .
وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الحق . وكذا قال الضحاك ، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما ، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنبتليهم به .
وقال مقاتل : فنزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين .
والقول الثاني : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } الضلالة { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا ، كما قال : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] وكقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد ؛ فإنه في قوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الضلالة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس ، وزيد بن أسلم ، والكلبي ، وابن كيسان . وله اتجاه ، وتيأيد بقوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
وقوله : { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } أي : عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن زيد : { عَذَابًا صَعَدًا } أي : مشقة لا راحة معها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَلّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مّآءً غَدَقاً * لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .
يقول تعالى ذكره : وأن لو استقام هؤلاء القاسطون على طريقة الحقّ والاستقامة لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غدَقا يقول : لو سعنا عليهم في الرزق ، وبسطناهم في الدنيا لنفتنهم فيه ، يقول لنختبرهم فيه . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْ لَو اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا يعني بالاستقامة : الطاعة . فأما الغدق فالماء الطاهر الكثير لِنَفْتنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ طريقة الإسلام لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : نافعا كثيرا ، لأعطيناهم مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حتى يرجعوا لما كتب عليهم من الشقاء .
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : حدثنا الفريابي ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : طريقة الحقّ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا يقول مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم به حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم من الشقاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه ، مثله .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن مجاهد وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : الإسلام لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم به .
قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن غير واحد ، عن مجاهد ماءً غَدَقا قال الماء . والغدق : الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حتى يرجعوا إلى علمي فيهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لأعطيناهم مالاً كثيرا ، قوله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن بعض أصحابه ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : الدين لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا . قال الله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم بها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لو اتقوا لوسع عليهم في الرزق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ماءً غَدَقا قال : عيشا رَغدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : الغدق الكثير : مال كثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فيه .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا المطلب بن زياد ، عن التيمي ، قال : قال عمر رضي الله عنه في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأن لو استقاموا على الضلاة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مُجَلّز ، قال : وأن لو استقاموا على طريقة الضلالة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأن لو استقاموا على طريقة الحقّ وآمنوا لوسعنا عليهم . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : هذا مثل ضربه الله كقوله : وَلَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّوْرَاةَ والإنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهمْ وقوله تعالى : وَلَوْ أنّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهمْ بَرَكاتٍ من السّماءِ والأرْضِ والماء الغَدَقَ يعني : الماء الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم فيه .
وقوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا يقول عزّ وجل : ومن يُعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به ، وهو هذا القرآن ومعناه : ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله ، يسلكه الله عذابا صعدا : يقول : يسلكه الله عذابا شديدا شاقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْه عَذَابا صَعَدا يقول : مشقة من العذاب يصعد فيها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَذَابا صَعَدا قال : مشقة من العذاب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس عَذَابا صَعَدا قال : جبل في جهنم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا عذابا لا راحة فيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة عَذَابا صَعَدا قال : صَعودا من عذاب الله لا راحة فيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا قال : الصعد : العذاب المنصب .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَسْلُكْه فقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة : «نَسْلُكْهُ » بالنون اعتبارا بقوله : لِنَفْتِنَهُمْ أنها بالنون . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء ، بمعنى : يسلكه الله ، ردّا على الربّ في قوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ .
الضمير في قوله { استقاموا } قال أبو مجلز والفراء والربيع بن أنس وزيد ابن أسلم والضحاك بخلاف عنه : الضمير عائد على قوله { من أسلم } [ الجن : 14 ] ، و { الطريقة } طريقة الكفر ، لو كفر من أسلم من الناس { لأسقيناهم } إملاء لهم واستدراجاً . وقال قتادة وابن جبير وابن عباس ومجاهد الضمير عائد على «القاسطين » . والمعنى على طريقة الإسلام والحق لأنعمنا عليهم ، وهذا المعنى نحو قوله : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم }{[11373]} [ المائدة : 65 ] ، وقوله { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }{[11374]} [ المائدة : 66 ] . وهذا قول أبين لأن استعارة الاستقامة للكفر قلقة . وقرأ الأعمش وابن وثاب «وأن لوُ » بضم الواو . وقال أبو الفتح هذا تشبيه بواو الجماعة اشتروا الضلالة بالهدى{[11375]} ، والماء الغدق : هو الماء الكثير . وقرأ جمهور الناس «غدَقاً » بفتح الدال ، وقرأ عاصم في رواية الأعشى عنه بكسرها .