مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا} (16)

قوله تعالى : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا ، لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } هذا من جملة الموحى إليه والتقدير : قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه ، وهاهنا مسائل :

المسألة الأولى : أن مخففة من الثقيلة والمعنى : وأوحي إلي أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا . قال الواحدي : وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل ولا السين في قوله : { أن لا يرجع إليهم قولا } و{ علم أن سيكون } .

المسألة الثانية : الضمير في قوله : { استقاموا } إلى من يرجع ؟ فيه قولان : قال بعضهم : إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم ، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا . وقال آخرون : بل المراد الإنس ، واحتجوا عليه بوجهين ( الأول ) : أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن ( والثاني ) : أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوما جرى مجرى قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه . وأقول : يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة ، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة .

المسألة الثالثة : الغدق بفتح الدال وكسرها : الماء الكثير ، وقرئ بهما يقال : غدقت العين بالكسر فهي غدقة ، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء ، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء ، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال : ( أحدها ) : أنه الغيث والمطر ، والثاني : وهو قول أبي مسلم : أنه إشارة إلى الجنة كما قال : { جنات تجرى من تحتها الأنهار } ( وثالثها ) : أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها ، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا .

المسألة الرابعة : إن قلنا : الضمير في قوله : { استقاموا } راجع إلى الجن كان في الآية قولان : ( أحدهما ) : لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ، ونظيره قوله تعالى : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } وقوله : { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا } وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه } وقوله : { فقلت استغفروا ربكم إلى قوله ويمددكم بأموال وبنين } وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع ، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب ( والثاني ) : أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق ، ونظيره قوله تعالى : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } واختار الزجاج الوجه الأول قال : لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية { لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } .

{ لنفتنهم فيه } فهو كقوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضا ابتلاء واختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا ، وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان ، وأما الذين قالوا : الضمير عائد إلى الإنس ، فالوجهان عائدان فيه بعينه وهاهنا يكون إجراء قوله : { لأسقيناهم ماء غدقا } على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل .