اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا} (16)

قوله { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } ، «أنْ » هي المخففة من الثقيلة ، وتقدم أنه يكتفي ب «لو » ، فأصله بين «أن » المخففة ، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة «سَبَأ » .

وقال أبو البقاء هنا : «ولو » عوض كالسِّين ، وسوف ، وقيل : «لَوْ » بمعنى «إن » و «إن » بمعنى اللام ، وليست بلازمة كقوله { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ }[ مريم : 46 ] ، وقال في موضع آخر : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ }[ المائدة : 37 ] ذكره ابن فضالة في البرهان .

قال شهاب الدين{[58161]} : «وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين » .

وقرأ العامة : بكسر «وأن لو » على الأصل .

وابن وثَّاب والأعمشُ : بضمها{[58162]} ، تشبيهاً بواو الضمير . وقد تقدم تحقيقه في البقرة .

فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق

هذا من كلام الله تعالى ، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق ، وهذا محمولٌ على الوحي ، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا .

قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السورة من «أنَّ » المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من «أن » المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن الأنباريِّ : ومن كسر الحروف ، وفتح { وأنْ لو اسْتقَامُوا } أضمر يميناً تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ، كما يقال في الكلام : والله إن قمت لقمت ، والله لو قمت قمت .

قال الشاعر : [ الوافر ]

4910 - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً*** ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ{[58163]}

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير : { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ } ، { وَأَلَّوِ استقاموا } أو «على آمنا به » ويستغنى عن إضمار اليمين .

والضمير في قوله { وَأَلَّوِ استقاموا } ، قيل : يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي : هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا .

وقيل : بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ ، إنما يليق بالإنس ، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر }[ القدر : 1 ] .

وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه .

قال ابن الخطيب{[58164]} : «ويدل على صحة قول القاضي ، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة ، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة » .

والغدق - بفتح الدال وكسرها - : لغتان في الماء الغزير ، ومنه الغداق : للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق ، والكثير النطق .

ويقال : غدقت عينه تغدق أي : هطل دمعها غدقاً .

وقرأ العامة : «غَدَقاً » بفتحتين .

وعاصم فيما يروي{[58165]} عنه الأعشى ، بفتح الغين وكسر الدال ، وقد تقدم أنهما لغتان .

قوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } .

قال ابن الخطيب{[58166]} : إن قلنا : إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان :

أحدهما : أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم ، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } [ المائدة : 66 ] الآية ، وقوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] . وقوله : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ } ، إلى قوله : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح :10- 12 ] الآية .

وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب .

الثاني : أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها ، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] الآية .

والقول الأول : اختيار الزجاج ، قال : لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة ، وهي طريقة الهدى .


[58161]:ينظر: الدر المصون 6/395.
[58162]:ينظر: البحر المحيط 8/344، والدر المصون 6/395.
[58163]:ينظر الإنصاف 1/121، وخزانة الأدب 4/141، 143، 145، 10/82 والجنى الداني ص 222، وجواهر الأدب ص197، والدرر 4/96، 219، ورصف المباني ص 116، وشرح التصريح 2/333، وشرح شواهد المغني 1/111، ومغني اللبيب 1/33 والمقاصد النحوية 4/409، والمقرب 1/205، وهمع الهوامع 2/18، 41.
[58164]:ينظر: الفخر الرازي 30/142.
[58165]:ينظر: المحرر الوجيز 5/383، والبحر المحيط 8/345، والدر المصون 6/395.
[58166]:ينظر: الفخر الرازي 30/142.