تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا} (16)

الآية 16 : وقوله تعالى : { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } اختلف فيه :

فمنهم من قال : طريقة الهدى ، ومنهم من قال : طريقة الكفر .

فمن قال : المراد ، هو طريقة الهدى ، قال : إن الطريقة المعروفة المعهودة ، هي طريق الله تعالى ، فعند الإطلاق تنصرف إليه كالدين متى ذكر مطلقا ينصرف إلى دين الحق ، وكذلك السبيل المطلق .

قال الله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم }[ الفاتحة : 6 ] وهو الإسلام . ثم يخرّج هذا على وجوه :

أحدها : ينصرف إلى الكفرة أنهم لو استقاموا على الطريقة ، أي لو أجابوا إلى ما يدعون إليه من الهدى{ لأسقيناهم ماء غدقا } أي وسعنا عليهم ، وكثرنا أموالهم ، ويكون ذكر الماء ههنا كناية عن السعة ، لأن سعة الدنيا كلها ، تتصل بالماء ، والماء أصلها . قال الله تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون }[ الذاريات : 22 ] فأخبر أن رزق الخلق من السماء ماء ، وهو المطر ، وجعل ذلك رزقا ؛ إذ هو أصل رزق الخلق ، فكذلك ذكر الماء ههنا كناية عن السعة من الوجه الذي ذكرنا .

فإن كان على هذا فيكون الخطاب راجعا إلى الوقت الذي كانوا ابتلوا فيه بالقحط والسنين ، فوعد لهم أنهم لو أجابوا إلى ما دعوا إليه لرفع عنهم القحط والسنين ، ولوسّع عليهم في الرزق ، وهو كقول{[22321]} نوح وهود وغيرهما ووعدهم أقوامهم{[22322]} بإرسال الأمطار وتكثير الأموال والأولاد[ ونحو ذلك ]{[22323]} .

ويجوز أن يكون هذا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا في أول الإسلام في ضيق الحال وشدة من العيش ، وكانوا يتفرقون في الشعاب والأودية[ لشدة ]{[22324]} ما حل بهم من الجوع ليصيبوا من عيشها ، وعند اشتداد الحال تخاف النفس من هولها{[22325]} والتبديل ، فوعدوا السعة في العيش{ وألو استقاموا على الطريقة }التي كانوا هم عليها ، أي داموا عليها ، ولم يبدلوا الدين الحق والهدى بالباطل كما وعد لهم النصر والظفر على الأعداء مع قلة أنصارهم ، إن داموا على الإسلام .

ويحتمل ما قال بعضهم : إن تأويل قوله عز وجل : { وألّو استقاموا على الطريقة } أي لو أسلم أهل الأرض كلهم جميعا لوسعنا عليهم الدنيا ، وكثرنا أموالهم وأولادهم ، حتى يفتنوا فيها ، فيمتحنوا بمحن شديدة ، فيتحمل البعض منهم ، فيبقوا مؤمنين ، ولا يتحمل البعض ، فيفتنوا ، ويعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر حتى لا يقع/603 -/ الخلف في وعدنا ، فإن الله تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولا يجوز أن يقع في وعيده خلف ، وهم لو استقاموا على الطريقة ، ولم يبغوا أدّى ذلك إلى خلف الوعيد[ لا أن ]{[22326]} يملأ إذا داموا على الطريقة ، ولم يبغوا ، وتكون الحكمة في بغيهم أن يعرف الخلق أن الله تعالى ، لم يخلقهم لمنافع ، تحصل له ، ولكن خلقهم لأنفسهم : إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ، وإن أساؤوا فعليهم ، ولو أبقاهم على الطريقة المستقيمة ، وظهرت الموالاة في الجملة لكان يسبق إلى الأوهام أنه إنما خلقهم لمنافع نفسه .

وهذا من الله تعالى بيان علمه بما لا يكون : أن لو كان ، كيف يكون أن الله تعالى علم الإيمان من البعض والكفر من البعض للحكمة التي ذكرنا وغيرها مما لا يقف على بعضها الخلق دون البعض ، وحكم كذلك[ الحكم ]{[22327]} ؟

ثم أخبر أنه لو حكم بأن يستقيم الكل على طريقة الحق ، ويؤمنوا ، لم يحكم على طريق الأبد في حق ، بل حكمه أن يستقيم عليها البعض إلى مدة ، ثم يترك ، ويبدل الحق بالباطل ، ويدوم البعض عليها تحقيقا لما ذكرنا من الحكم ، وهو كقوله : { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم }[ آل عمران : 154 ] أي لو [ لم ]{[22328]} يفرض عليهم الجهاد والخروج إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل ، ومنتهى آجالهم القتل ، إلى حوائج أنفسهم ، فيقتلون{[22329]} منه [ بيانا لحكمه ]{[22330]} الذي يحكم أنه لو حكم كيف كان ؟ فكذا هذا .

وأما من قال : معناه طريقة الكفر فهو أن يكون المراد بالاستقامة ههنا الإقامة ، ولفظة الإقامة يعبر بها عن الإقامة على الكفر والإسلام جميعا ، وتكون الطريقة ههنا إشارة إلى الطريقة التي كانوا عرفوها قبل الإسلام ، وهي الكفر .

وإن كانت الطريقة إذا أطلق ذكرها أريد بها طريقة الهدى ، لأن طريقة الكفر ، هي التي كانت معروفة في ما بينهم ، وكذلك ذكر أهل التأويل أن الطريقة ههنا طريقة الكفر ، فقوله تعالى : { لأسقيناهم ماء غدقا } أي وسعنا عليهم ، وكثرنا أموالهم ، ليعلموا جود ربهم كيف بسط عليهم الرزق مع اختيارهم عداوته كما بسط على أوليائه ، وليعلموا حلمه حين{[22331]} لم يؤاخذهم بذنوبهم ، ولم يعجل بإنزال النقمة ، والله أعلم .


[22321]:في الأصل و م: قول.
[22322]:في الأصل و م: قومهم.
[22323]:في الأصل و م: ونحوه.
[22324]:من م، ساقطة من الأصل.
[22325]:في الأصل و م: أهلها.
[22326]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: لأنه.
[22327]:ساقطة من الأصل و م.
[22328]:من م، ساقطة من الأصل.
[22329]:في الأصل و م: فيقتلوا.
[22330]:من م، في الأصل: لها.
[22331]:في الأصل و م: حيث.