قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً } ، قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال . قال الحسن : هي القناعة . وقال مقاتل بن حيان : يعني : العيش في الطاعة . وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة . قال مجاهد وقتادة : هي الجنة . ورواه عوف عن الحسن . وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة . { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها ، بل لا تسمى أعمالا صالحة إلا بالإيمان ، والإيمان مقتض لها ، فإنه التصديق الجازم المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات ، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح ، { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، وذلك بطمأنينة قلبه ، وسكون نفسه ، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه ، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا من حيث لا يحتسب . { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } في الآخرة ، { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، من أصناف اللذات مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فيؤتيه الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة .
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه{[16682]} من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه{[16683]} بأحسن ما عمله في الدار الآخرة .
والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب .
وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه فسرها بالقناعة . وكذا قال ابن عباس ، وعِكْرِمة ، ووهب بن منبه .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أنها{[16684]} السعادة .
وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة .
وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال الضحاك أيضا : هي{[16685]} العمل بالطاعة والانشراح بها .
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عَمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا ، وقَنَّعه الله بما آتاه " .
ورواه مسلم ، من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به{[16686]}
وروى الترمذي والنسائي ، من حديث أبي هانئ ، عن أبي علي الجنبي{[16687]} عن فضالة بن عُبَيد ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قد أفلح من هُدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع{[16688]} به " . وقال الترمذي : هذا حديث صحيح{[16689]} .
وقال الإمام أحمد ، حدثنا يزيد ، حدثنا هَمَّام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا [ ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا ]{[16690]} حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا " . انفرد بإخراجه مسلم{[16691]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : من عمل بطاعة الله ، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهُوَ مُؤْمِنٌ يقول : وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة ، وبوعيد أهل معصيته على المعصية { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } .
واختلف أهل التأويل في الذي عَنَى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يُحْييهموها ، فقال بعضهم : عني أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سَميع ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الحياة الطيبة : الرزق الحلال في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، في قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الرزق الحسن في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الرزق الطيب في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الرزق الطيب في الدنيا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، يعني : في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن مطرف ، عن الضحاك : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : الرزق الطيب الحلال .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عون بن سلام القرشيّ ، قال : أخبرنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، في قوله : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : يأكل حلالاً ويلبس حلالاً .
وقال آخرون : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَة } ، ً بأن نرزقه القناعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن المنهال بن خليفة ، عن أبي خزيمة سليمان التمّار ، عمن ذكره عن عليّ : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : القنوع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو عصام ، عن أبي سعيد ، عن الحسن البصريّ ، قال : الحياة الطيبة : القناعة .
وقال آخرون : بل يعني بالحياة الطيبة : الحياة مؤمنا بالله عاملاً بطاعته . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } يقول : من عمل عملاً صالحا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة ، فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا ، عيشته ضنكة لا خير فيها .
وقال آخرون : الحياة الطيبة السعادة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وعليّ بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : السعادة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الحياة في الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هَوْذة ، عن عوف ، عن الحسن : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : لا تطيب لأحد حياة دون الجنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، فإن الله لا يشاء عملاً إلا في إخلاص ، ويوجب من عمل ذلك في إيمان ، قال الله تعالى : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، وهي الجنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال : الاَخرة يحييهم حياة طيبة في الاَخرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : الحياة الطيبة في الاَخرة : هي الجنة ، تلك الحياة الطيبة ، قال : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال : ألا تراه يقول : { يا لَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَياتي } ؟ قال : هذه آخرته . وقرأ أيضا : { وَإنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ } ، قال : الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة ، ليس فيها موت لأحد من الفريقين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، قال : الإيمان : الإخلاص لله وحده ، فبين أنه لا يقبل عملاً إلا بالإخلاص له .
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق ، لم يكثر للدنيا تعبه ، ولم يعظم فيها نَصَبه ، ولم يتكدّر فيها عيشه ، باتباعه بغية ما فاته منها ، وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها .
وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية ؛ لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فقال تعالى : { وَلا تَتّخِذُوا أيمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السّوءَ بِمَا صَدَدَتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } ، فهذا لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، فهذا لهم في الآخرة . ثم أتبع ذلك ما لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى : ما عندكم في الدنيا ينفد ، وما عند الله باق ، فالذي هذه السيئة بحكمته أن يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا ، والغفران في الآخرة ، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره .
وأما القول الذي رُوِي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال ، فهو محَتمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك ، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال وإن قلّ ، فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله ، لا أنه يرزقه الكثير من الحلال ، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا ، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة .
وقوله : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، فذلك لا شكّ أنه في الآخرة وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، قال : إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سُمَيع ، عن أبي مالك ، وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سُمَيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ } ، قال : في الاَخرة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سُمَيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، يقول : يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون .
وقيل : إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتى تفاخروا ، فقال أهل كلّ ملة منها : نحن أفضل ، فبين الله لهم أفضل أهل الملل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فأنزل الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } .
{ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى } ، بينه بالنوعين دفعا للتخصيص . { وهو مؤمن } إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب . { فلنُحيينّه حياة طيبة } ، في الدنيا يعيش عيشا طيبا ، فإنه إن كان موسرا فظاهر ، وإن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة ، بخلاف الكافر فإنه إن كان معسرا فظاهر ، وإن كان موسرا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه . وقيل في الآخرة . { ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ، من الطاعة .
لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى ؛ { وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 96 ] خاصاً بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً عُقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر ، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها ، والبيان لما تضمّنته من مجمل الأجر . وكلا الاعتبارين يوجب فصلها عمّا قبلها .
وقوله تعالى : { من ذكر أو أنثى } تبيين للعموم الذي دلّت عليه { مَن } الموصولة . وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصّصه الدين بأحد الصّنفين . وأكّد هذا الوعدُ كما أكّد المبيّن به .
وذُكر « لنحيينّه » ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى : { حياة طيبة } . وذلك المصدر هو المقصود ، أي لنجعلنّ له حياة طيّبة . وابتدىء الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفاً له كأنه قيل : فله حياة طيبة مِنّا . ولما كانت حياة الذّات لها مدّة معيّنة كثُر إطلاق الحياة على مدّتها ، فوصفها بالطيّب بهذا الاعتبار ، أي طيب ما يحصل فيها ، فهذا الوصف مجاز عقلي ، أي طيّباً ما فيها . ويقارنها من الأحول العارضة للمرء في مدّة حياته ، فمن مات من المسلمين الذين عملوا صالحاً عوّضه الله عن عمله ما فاته من وعده .
ويفسّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال : « هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنّا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً ، كان منهم مُصعَب بنُ عمير قتل يوم أُحد فلم يترك إلا نَمِرة كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطي بها رجلاه خرج رأسه ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدُبُها » .
والطيِّب : ما يطيب ويحسن . وضد الطيّب : الخبيث والسيّىء . وهذا وعد بخيرات الدنيَا . وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم . وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ، ويعطي الله فيه عبادهُ المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم . ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا .
وقد عُقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى : { ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ، فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدّم آنفاً فإنه عامّ في الجَزاءين .