قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية . الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال الكفار ، فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما يختلفان ، فالغنيمة : ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان عن صلح بغير قتال ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال : { فأن لله خمسه وللرسول } . فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله : { لله } افتتاح كلام على سبيل التبرك ، وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة لله منفرداً ، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل ، وهو قول الحسن ، وقتادة وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد ، والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف ، كم ذكر الله عز وجل .
قوله تعالى : { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال بعضهم : يقسم الخمس على ستة أسهم ، وهو قول أبي العالية ، سهم لله فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، وقال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس لأربعة أصناف . قوله : { ولذي القربى } أراد أن سهماً من الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم ، فقال قوم : جميع قريش . وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصدقة ، وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ، ولا بني نوفل شيئا .
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن ، عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : ( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا ، وشبك بين أصابعه ) .
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم ؟ . فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد ، وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهماً واحداً . قوله : { واليتامى } وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيراً ، و{ المساكين } هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، { وابن السبيل } هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما : أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد الله بن يوسف ، أنا أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا سعدان بن نصر ، ثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهماً له ، وسهمين لفرسه .
وهذا قول أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول ، وعند أبي حنيفة : يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وقفاً على المصالح ، وظاهر الآية لا يفرق بين العقار و المنقول ، ومن قتل مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة له سلبه ) . والسلب : كل ما يكون من المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب . يخصه به من بين سائر الجيش ، ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش . وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة . واختلفوا في النفل من أين يعطى ؟ فقال قوم : من خمس الخمس ، منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب بعضهم : إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل ، وأما الفيء ، وهو ما أصابه المسلمين من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدون ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له ، فهذا كله في فيء . ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله منهم } إلى قوله : { قدير } وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل ، واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده . وللشافعي فيه قولان : أحدهما : للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو . والقول الثاني : أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح ، واختلف أهل العلم في تخميس الفيء ، فذهب الشافعي إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح . وذهب الأكثرون إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم ) .
وأخبرنا أبو سعيد الطاهر ، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } حتى بلغ { عليم حكيم } [ التوبة :60 ] فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } حتى بلغ { وابن السبيل } ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ { للفقراء } والذين جاءوا من بعدهم ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فليأتين الراعي وهو بسر وحمير فنصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه .
قوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } ، قيل : أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني : قوله { يسألونك عن الأنفال }
قوله تعالى : { يوم الفرقان } ، يعني يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل وهو { يوم التقى الجمعان } ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان .
قوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } ، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .
يقول تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ْ } أي : أخذتم من مال الكفار قهرا بحق ، قليلا كان أو كثيرا . { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ْ } أي : وباقيه لكم أيها الغانمون ، لأنه أضاف الغنيمة إليهم ، وأخرج منها خمسها . فدل على أن الباقي لهم ، يقسم على ما قسمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : للراجل سهم ، وللفارس سهمان لفرسه ، وسهم له .
وأما هذا الخمس ، فيقسم خمسة أسهم ، سهم للّه ولرسوله ، يصرف في مصالح المسلمين العامة ، من غير تعيين لمصلحة ، لأن اللّه جعله له ولرسوله ، واللّه ورسوله غنيان عنه ، فعلم أنه لعباد اللّه . فإذا لم يعين اللّه له مصرفا ، دل على أن مصرفه للمصالح العامة .
والخمس الثاني : لذي القربى ، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب . وأضافه اللّه إلى القرابة دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة ، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم ، ذكرهم وأنثاهم .
والخمس الثالث لليتامى ، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم ، حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم ، وقد فقد من يقوم بمصالحهم .
والخمس الرابع للمساكين ، أي : المحتاجين الفقراء من صغار وكبار ، ذكور وإناث .
والخمس الخامس لابن السبيل ، وهو الغريب{[345]} المنقطع به في غير بلده ، [ وبعض المفسرين يقول إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك تبع للمصلحة وهذا هو الأولى ]{[346]} وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان فقال : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ْ } وهو يوم { بدر ْ } الذي فرق اللّه به بين الحق والباطل . وأظهر الحق وأبطل الباطل .
{ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ْ } جمع المسلمين ، وجمع الكافرين ، أي : إن كان إيمانكم باللّه ، وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان ، الذي حصل فيه من الآيات والبراهين ، ما دل على أن ما جاء به هو الحق . { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ْ } لا يغالبه أحد إلا غلبه .
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة ، من بين سائر الأمم المتقدمة ، من إحلال المغانم . و " الغنيمة " : هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب . و " الفيء " : ما أخذ منهم بغير ذلك ، كالأموال التي يصالحون عليها ، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم ، والجزية والخراج ونحو ذلك . هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف{[12948]} والخلف .
ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق{[12949]} عليه الغنيمة ، والغنيمة على الفيء أيضا ؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية " الحشر " : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } الآية [ الحشر : 7 ] ، قال : فنسخت آية " الأنفال " تلك ، وجعلت الغنائم : أربعة أخماسها{[12950]} للمجاهدين ، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين . وهذا الذي قاله بعيد ؛ لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بَدْر ، وتلك نزلت في بني النَّضِير ، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة أن بني النضير بعد بدر ، هذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب ، فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة يقول : تلك نزلت في أموال الفيء وهذه في المغانم . ومن يجعل أمر المغانم والفيء راجعا{[12951]} إلى رأي الإمام يقول : لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس إذا رآه الإمام ، والله أعلم .
وقوله{[12952]} تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط{[12953]} والمخيط ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ آل عمران : 161 ] .
وقوله : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } اختلف المفسرون هاهنا ، فقال بعضهم : لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة .
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية الرِّيَاحي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه ، فيجعله للكعبة{[12954]} وهو سهم الله . ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم للرسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل{[12955]}
وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك ، وسهم{[12956]} لرسوله عليه السلام{[12957]}
قال الضحاك ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سَرِيَّة فغنموا ، خَمَّس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة . ثم قرأ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ قال : وقوله ]{[12958]} { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } مفتاح كلام ، لله ما في السموات وما في الأرض ، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحدًا .
وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي ، والحسن بن محمد ابن الحنفية . والحسن البصري ، والشعبي ، وعَطاء بن أبي رباح ، وعبد الله بن بريدة{[12959]} وقتادة ، ومغيرة ، وغير واحد : أن سهم الله ورسوله واحد .
ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رجل من بلقين قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرى ، وهو يعرض فرسًا ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : " لله خمسها ، وأربعة أخماس للجيش " . قلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال : " لا ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم " {[12960]}
وقال ابن جرير : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أبان ، عن الحسن قال : أوصى أبو بكر بالخمس{[12961]} من ماله ، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه{[12962]}
ثم اختلف قائلو هذا القول ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كانت الغنيمة تقسم{[12963]} على خمسة أخماس ، فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة{[12964]} فربع لله وللرسول ولذي القربى - يعني : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم . فما كان لله وللرسول فهو لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا ، [ والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل ] . {[12965]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَرِي ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن حسين المعلم ، عن عبد الله بن بُرَيْدَة في قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } قال : الذي لله فلنبيه ، والذي للرسول لأزواجه .
وقال عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح قال : خمس الله والرسول{[12966]} واحد ، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء - يعني : النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا أعم وأشمل ، وهو أن الرسول{[12967]} صلى الله عليه وسلم{[12968]} يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء - ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن أبي سلام الأعرج ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي : أنه جلس مع عبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء ، والحارث بن معاوية الكندي ، رضي الله عنهم ، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو الدرداء لعبادة : يا عبادة ، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم ، فلما سلم قام{[12969]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرة بين أنملتيه فقال : " إن هذه من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر{[12970]} من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا ، فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله{[12971]} القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في [ سبيل ]{[12972]} الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة [ عظيم ]{[12973]} ينجي به الله من الهم والغم " {[12974]}
هذا حديث حسن عظيم ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه . ولكن روى الإمام أحمد أيضًا ، وأبو داود ، والنسائي ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عن عبد الله بن عمرو ، عن{[12975]} رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول{[12976]}
وعن عمرو بن عَبَسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة{[12977]} من ذلك البعير ثم قال : " ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه ، إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم " . رواه أبو داود والنسائي{[12978]}
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من المغانم{[12979]} شيء يصطفيه لنفسه عبدًا أو أمة أو فرسًا أو سيفًا أو نحو ذلك ، كما نص على ذلك محمد بن سيرين وعامر الشعبي ، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء .
وروى الإمام أحمد ، والترمذي - وحسنه - عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا{[12980]} الفَقَار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد{[12981]}
وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كانت صفية من الصّفي . رواه أبو داود في سننه{[12982]}
وروى أيضًا بإسناده ، والنسائي أيضًا عن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمِرْبَد إذ دخل رجل معه قطعة أديم ، فقرأناها فإذا فيها : " من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش ، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي وسهم الصّفي ، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله " . فقلنا : من كتب لك هذا ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم{[12983]}
فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرر هذا وثبوته ؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه .
وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين ، كما يتصرف في مال الفيء .
وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية ، رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف ، وهو أصح الأقوال .
فإذا ثبت هذا وعلم ، فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه السلام{[12984]} من الخمس ، ماذا يُصنع به من بعده ؟ فقال قائلون : يكون لمن يلي الأمر من بعده . روى هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة جماعة ، وجاء فيه حديث مرفوع{[12985]}
وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين .
وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، اختاره ابن جرير .
وقال آخرون : بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل .
قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق .
وقيل : إن الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن جرير .
حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا عبد الغفار ، حدثنا المِنْهَال بن عمرو ، وسألت عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين ، عن الخمس فقالا هو لنا . فقلت لعلي : فإن الله يقول : { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } فقالا يتامانا ومساكيننا .
وقال سفيان الثوري ، وأبو نُعَيْم ، وأبو أسامة ، عن قيس بن مسلم : سألت الحسن بن محمد ابن الحنفية ، رحمه الله تعالى ، عن قول الله{[12986]} تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } قال{[12987]} هذا مفتاح كلام ، لله{[12988]} الدنيا والآخرة . ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلون : سهم النبي صلى الله عليه وسلم تسليما للخليفة من بعده . وقال قائلون : لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة . فاجتمع قولهم{[12989]} على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعُدة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما{[12990]}
قال{[12991]} الأعمش ، عن إبراهيم{[12992]} كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان علي يقول فيه ؟ قال : كان [ علي ]{[12993]} أشدهم فيه .
وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء ، رحمهم الله .
وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب ؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية [ وفي أول الإسلام ]{[12994]} ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له : مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حَمِيَّة للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله . وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل - وإن كانوا أبناء عمهم - فلم يوافقوهم على ذلك ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول ؛ ولهذا كان ذَمُّ أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم ، لشدة قربهم . ولهذا يقول في أثناء قصيدته{[12995]} : جَزَى الله عَنَّا عبدَ شمس ونَوفلا *** عُقُوبة شرٍّ عاجل غير آجلِ
بميزان قسْط لا يَخيس شَعِيرة *** لهُ شَاهدٌ مِنْ نَفْسه غير عائلِ
لقد سَفُهت أحلامُ قوم تَبَدَّلوا *** بني خَلَف قَيْضا بنا والغَيَاطِلِ
ونحنُ الصَّميم من ذؤابة هاشم *** وآل قُصَى في الخُطُوب الأوائلِ{[12996]}
وقال جبير بن مطعم بن عدي [ بن نوفل ]{[12997]} مشيت أنا وعثمان بن عفان - يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وَهُم منك بمنزلة واحدة ، فقال : " إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد " .
رواه مسلم{[12998]} وفي بعض روايات هذا الحديث : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام " {[12999]}
وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب .
قال ابن جرير : وقال آخرون : هم بنو هاشم . ثم روى عن خُصَيْف ، عن مجاهد قال : علم الله أن في بني هاشم فقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة .
وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة .
ثم روى عن علي بن الحسين نحو ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل هم قريش كلها .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبي مَعْشَر ، عن سعيد المقْبُرِي قال : كتب نَجْدَة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن " ذي القربى " ، فكتب إليه ابن عباس : كنا نقول : إنا هم فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قربى{[13000]} {[13001]}
وهذا الحديث في صحيح مسلم ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمُز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى فذكره إلى قوله : " فأبى ذلك علينا قومنا " {[13002]} والزيادة من أفراد أبي معشر نَجِيح بن عبد الرحمن المدني ، وفيه ضعف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغبت لكم عن غُسَالة الأيدي ؛ لأن لكم من خُمْس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم " .
هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وَثَّقه أبو حاتم ، وقال يحيى بن معين{[13003]}
يأتي بمناكير{[13004]} والله أعلم .
وقوله : { وَالْيَتَامَى } أي : يتامى المسلمين . واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء ، أو يعم الأغنياء والفقراء ؟ على قولين .
و{ الْمَسَاكِينِ } هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم .
{ وَابْنِ السَّبِيلِ } هو المسافر ، أو المريد للسفر ، إلى مسافة تقصر فيها الصلاة ، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك . وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة " براءة " ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة ، وعليه التكلان .
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } أي : امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله ثم قال : هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم . . " الحديث بطوله{[13005]} فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوَّب البخاري على ذلك في " كتاب الإيمان " من صحيحه فقال : ( باب أداء الخمس من الإيمان ) ، ثم أورد حديث ابن عباس هذا ، وقد بسطنا الكلام عليه في " شرح البخاري " ولله الحمد والمنة{[13006]}
وقال مقاتل بن حيان : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } أي : في القسمة ، وقوله : { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ينبه تعالى على نعمته{[13007]} وإحسانه إلى خلقه بما فَرَق به بين الحق والباطل ببدر ويسمى " الفرقان " ؛ لأن الله تعالى أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل ، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه .
قال علي بن أبي طالب والعَوْفِي ، عن ابن عباس : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم بدر ، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل . رواه الحاكم .
وكذا قال مجاهد ، ومِقْسَم وعبيد الله بن عبد الله ، والضحاك ، وقتادة ، ومُقَاتل بن حيان ، وغير واحد : أنه يوم بدر .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم فرق الله [ فيه ]{[13008]} بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة ، فالتقوا يوم الجمعة لتسعَ عشرةَ - أو : سبع عشرة - مضت من رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمائة .
فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على السبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن ابن مسعود ، قال في ليلة القدر : تحروها لإحدى عشرة يبقين{[13009]} فإن صبيحتها{[13010]} يوم بدر . وقال : على شرطهما{[13011]}
وروي مثله عن عبد الله بن الزبير أيضًا ، من حديث جعفر بن بُرْقَان ، عن رجل ، عنه .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عَوْن محمد بن عبيد الله الثقفي{[13012]} عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال الحسن بن علي : كانت ليلة " الفرقان يوم التقى الجمعان " لسبع عشرة من رمضان{[13013]} إسناد جيد قوي .
ورواه ابن مَرْدُوَيه ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب ، عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ، ليلة التقى الجمعان ، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان .
وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير .
وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه : كان يوم بدر يوم الاثنين ولم يتابع على هذا ، وقول الجمهور مقدم عليه ، والله أعلم .
{ وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ المؤمنين قسم غنائمهم إذا غنموها ، يقول تعالى ذكره : واعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتم من غنيمة .
واختلف أهل العلم في معنى الغنيمة والفيء ، فقال بعضهم : فيهما معنيان كلّ واحد منهما غير صاحبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، قال : سألت عطاء بن السائب عن هذه الاَية : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، وهذه الاَية : ما أفاءَ اللّهُ عَلى رسُولهِ ، قال : قلت : ما الفيء وما الغنيمة ؟ قال : إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم ، وأخذوهم عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة ، وأما الأرض فهي في سوادنا هذا فيء .
وقال آخرون : الغنيمة ما أُخذ عَنْوة . والفيء : ما كان عن صلح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان الثوري ، قال : الغنيمة : ما أصاب المسلمون عنوة بقتال فيه الخمس ، وأربعة أخماسه لمن شهدها . والفيء : ما صولحوا عليه بغير قتال ، وليس فيه خمس ، هو لمن سَمّى الله .
وقال آخرون : الغنيمة والفيء بمعنى واحد . وقالوا : هذه الاَية التي في الأنفال ناسخة قولَه : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرسُولِ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلَلّهِ وللرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ قال : كان الفيء في هؤلاء ، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال ، فقال : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبيلِ ، فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الحشر ، وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر ، وسائر ذلك لمن قاتل عليه .
وقد بيّنا فيما مضى الغنيمة ، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله ماله أهل دينه بغلبة عليه وقهر بقتال . فأما الفيء ، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك ، وهو ما ردّه عليهم منها بصلح ، من غير إيجاف خيل ولا ركاب . وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم فيئا ، لأن الفيء إنما هو مصدر من قول القائل : فاء الشيء يَفيءُ فَيْئا : إذا رجع ، وأفاءه الله : إذا ردّه . غير أن الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر إنما هو ما وصفت صفته من الفيء دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب ، لعلل قد بينتها في كتابنا : «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الدين » وسنبينه أيضا في تفسير سورة الحشر إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى .
وأما قول من قال : الاَية التي في سورة الأنفال ناسخة الاَية التي في سورة الحشر فلا معنى له ، إذ كان لا معنى في إحدى الاَيتين ينفي حكم الأخرى . وقد بيّنا معنى النسخ ، وهو نفي حكم قد ثبت بحكم بخلافه ، في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : مِنْ شَيْءٍ فإنه مراد به كل ما وقع عليه اسم شيء مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين مما وقع فيه القسم حتى الخيط والمخيط . كما
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ، قال : المخيط من الشيء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : قوله : فَأنّ للّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام ، ولله الدنيا والاَخرة وما فيهما ، وإنما معنى الكلام : فأن للرسول خمسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن عن قول الله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ ، قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن بن محمد ، عن قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خَمّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخُمْسَ في خمسة ، ثم قرأ : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ . قال : وقوله : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام ، لله ما في السّمَوَاتِ وما في الأَرْضِ ، فجعل سهم الله ، وسهم الرسول واحدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : فَأن لِلّهِ خُمُسَهُ قال : لله كلّ شيء .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال : لله كلّ شيء ، وخمس لله ورسوله ، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس ، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها ، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس ، فخمس لله والرسول .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا أبان ، عن الحسن ، قال : أوصى أبو بكر رضي الله عنه بالخمس من ماله وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ قال : خمس الله وخمس رسوله واحد ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويصنع فيه ما شاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، قال : كل شيء لله ، الخمس للرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإن لبيت الله خمسه وللرسول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة ، فيقسمها على خمسة : تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس ، فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة ، وهو سهم الله ، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ . . . . إلى آخر الاَية ، قال : فكان يجاء بالغنيمة فتوضع ، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم ، فيجعل أربعة بين الناس ويأخذ سهما ، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم ، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، فهو الذي سُمي لله ، ويقول : «لا تجعلوا لله نصيبا فإن لله الدنيا والاَخرة » ، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم : سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .
وقال آخرون : ما سمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فإنما هو مراد به قرابته ، وليس لله ولا لرسوله منه شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : فأربعة منها لمن قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربع فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا ، والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال قوله : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ افتتاح كلام ، وذلك لإجماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم ، ولو كان لله فيه سهم كما قال أبو العالية ، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها ، فأما على أكثر من ذلك فما لا نعلم قائلاً قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية ، وفي إجماع من ذكرت الدلالة الواضحة على صحة ما اخترنا . فأما من قال : سهم الرسول لذوي القربى ، فقد أوجب للرسول سهما وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته ، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم . وقد
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ . . . الاَية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا ، فكان خمس لله ولرسوله ، ويقسم المسلمون ما بقي . وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان هذا الخمس خمسة أخماس : خمس لله ورسوله ، وخمس لذوي القُرْبى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، وخمس لابن السبيل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : هو خمس الخمس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، وجرير عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول خمسه يضعه حيث رأى ، وخمسه لذوي القربى ، وخمسه لليتامى ، وخمسه للمساكين ، ولابن السبيل خمسه .
وأما قوله : وَلِذِي القُرْبَىَ فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم ، فقال بعضهم : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته لا يأكلون الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد السلام ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، قال : قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المزني ، عن السديّ ، عن ابن الديلمي ، قال : قال عليّ بن الحسين رضي الله عنه لرجل من أهل الشأم : أما قرأت في الأنفال : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية ؟ قال : نعم ، قال : فإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحلّ لهم الصدقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن نَجُدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى ، فكتب إليه كتابا : تزعم أنا نحن هم ، فأبى ذلك علينا قومنا .
قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فأنّ للّهِ خُمُسَهُ قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول خمسه يضعه حيث رأى ، وخمس لذوي القربى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، ولابن السبيل خمسه .
وقال آخرون : بل هم قريش كلها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرني عبد الله بن نافع ، عن أبي معشر ، عن سعيد المُقِبري ، قال : كتب نجْدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى ، قال : فكتب إليه ابن عباس : قد كنا نقول إنا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قُرْبىَ .
وقال آخرون : سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أنه سئل عن سهم ذي القربى ، فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا ، فلما توفي جعل لوليّ الأمر من بعده .
وقال آخرون : بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم ، وبني المطلب خاصة . وممن قال ذلك الشافعيّ ، وكانت علته في ذلك ما
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال : «إنّهُمْ لَمْ يُفارِقُونا فِي جاهِلِيّةٍ وَلا إسْلامٍ ، إنّمَا بَنُو هاشِمٍ وَبَنُو المُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ » . ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : سهم ذي القربى كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب ، لأن حليف القوم منهم ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين ، أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : يصرفان في معونة الإسلام وأهله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جعل سهم الله وسهم الرسول واحدا ولذي القربى ، فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح ، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يُعْطَى غيرهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن عن قول الله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .
ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلون : سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة . واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن بن محمد ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان عليّ رضي الله عنه يقول فيه ؟ قال : كان عليّ أشدّهم فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ . . . الاَية . قال ابن عباس : فكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : أربعة بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : لله ، وللرسول ، ولذي القربى ، يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا . فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيب القرابة في المسلمين ، فجعل يحمل به في سبيل الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا نُورَثُ ، ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذي القربى ، فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله صدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وليّ أمر المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عنِ عمران بن ظَبيان ، عن حكيم بن سعد ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : يعطى كلّ إنسان نصيبه من الخمس ، ويلي الإمام سهم الله ورسوله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذوي القربى ، فقال : كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا ، فلما توفي جُعِل لوليّ الأمر من بعده .
وقال آخرون : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم : على اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وذلك قول جماعة من أهل العراق .
وقال آخرون : الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الغفار ، قال : حدثنا المنهال بن عمرو ، قال : سألت عبد الله بن محمد بن عليّ ، وعليّ بن الحسين عن الخمس ، فقالا : هو لنا . فقلت لعليّ : إن الله يقول : واليَتامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فقال : يتامانا ومساكيننا .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما رُوي عن ابن عباس : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الاَخرين . وقد أجمعوا أن حقّ الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حقّ أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم ، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه إلى غير أهل السهمان الأخر . وأما اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم . والمساكين هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين . وابن السبيل المجتاز سفرا قد انْقُطِعَ به . كما
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الخمس الرابع لابن السبيل ، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى : إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللّهِ وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ وَاللّه عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
يقول تعالى ذكره : أيقنوا أيها المؤمنون أنما غنمتم من شيء فمقسوم القَسمْ الذي بينته ، وصَدقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله ، وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر ، فأبان فلج المؤمنين وظهورهم على عدوّهم ، وذلك يوم التقى الجمعان : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين . والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين ، وعلى غير ذلك مما يشاء قدير لا يمتنع عليه شيء أراده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يعني بالفرقان : يوم بدر ، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وإسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يوم فرق الله بين الحقّ والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة . فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً ، والمشركون ما بين الألف والتسع مئة ، فهزم الله يومئذ المشركين ، وقُتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثلُ ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن مقسم : يَوْمَ الفُرْقانِ ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحقّ والباطل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم ، في قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحقّ والباطل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، ابن عباس ، قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ يوم بدر . وبدر بين المدينة ومكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : ثني يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عون ، عن محمد بن عبد الله الثقفي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب ، قال : قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ قال ابن جريج : قال ابن كثير : يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ : أي يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر ، أي يوم التقى الجمعان منكم ومنهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ ، وذاكم يوم بدر ، يوم فرق الله بين الحقّ والباطل .
{ واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا . { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط . { فأن لله خُمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه . وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } . وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به . وحكمه بعد ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما . وقيل إلى الإمام . وقيل إلى الأصناف الأربعة . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه :سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية . وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال :يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ) . وقيل : سهم الله لبيت المال . وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . وشبك بين أصابعه " . وقيل بنو هاشم وحدهم . وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء . وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل . وقيل : الخمس كله لهم . والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص . والآية نزلت ببدر . وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة . { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } أي : إن كنتم آمنتم بالله فعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل . { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر . وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة .
انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال ، الذي افتتحته السورة ، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين . والجملة معطوفة على جملة { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ الأنفال : 39 ] .
وافتتاحه ب { اعلموا } للاهتمام بشأنه ، والتنبيهِ على رعاية العمل به ، كما تقدّم في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله ، والعمل بذلك المعلوم ، فيكون { اعلموا } كناية مراداً به صريحه ولازمه . والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر ، وليس هذا نسخاً لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة ، بل هو بيان لإجمال قوله : { للَّه . . وللرسول } وقال أبو عبيد : إنّها ناسخة ، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين ، ثم شرع التخميس . وذكروا : أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر ، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر ، أي بعد نزول آية سورة الأنفال ، وفي حديث علي : أنّ رسول الله أعطاه شارفاً من الخمس يوم بدر ، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست .
وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديماً في المراد من المغنم في هذه الآية ، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك ، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر ، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس ، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى : إمّا في السهام ، وإمّا في أنواع المغانم ، وتفصيل ذلك يطول . وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالاً لاختلاف الأقوال : النفَل ، والغنيمة ، والفيء .
والوجه عندي في تفسير هذه الآية ، واتّصالها بقوله : { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] أنَّ المراد بقوله : { ما غنمتم } في هذه الآية : ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش ، وذلك ما سمّي بالأنفال ، في أوّل السورة ، فالنفل والغنيمة مترادفان ، وذلك مقتضى استعمال اللغة ، فعن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء : الأنفال الغنائم . وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا { غنمتم } وقال في أوّل السورة [ الأنفال : 1 ] : { يسألونك عن الأنفال } لاقتضاء الحال التعبيرَ هنا بفعلٍ ، وليس في العربية فعل من مادّة النفَل يفيد إسناد معناه إلى من حَصَل له ، ولذلك فآية { واعلموا أنما غنمتم } سيقت هنا بياناً لآية { يسألونك عن الأنفال فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام . ونرى أنّ تخصيص اسم النفَل بما يعطيه أميرُ الجيش أحدَ المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبَاً أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي ، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية ، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر ، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس : أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين بغير قتال ، فجعلها بمعنى الفيء ، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد .
وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة ، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال ، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية .
فاصطلحوا على أنّ الغنيمة ، ويُقال : لها المغنم ، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصباً ، بقتل أو بأسر ، أو يقتحمون ديارهم غازين ، أو مايتركه الأعداء في ديارهم ، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال . فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ ، وما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين ، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر .
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] إلخ . فقال مالك : ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلاّ الغنيمة والفيء . وأمّا النفَل فليس حقَّاً مستقلاً بالحكم ، ولكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة ، على ما يرى من الاجتهاد ، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حدّ له ، ولا يكون فيما زاد على الخُمس . هذا قول مالك ورواية عن الشافعي . وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، في أشهر الروايتين عنه ، وسعيد بن المسيّب : النفل من الخمس وهو خُمس الخمس .
وعن الأوزاعي ، ومكحول ، وجمهور الفقهاء : النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس .
و ( ما ) في قوله : { أنما } اسم موصول وهو اسم ( أنَّ ) وكتبت هذه في المصحف متّصلة ب ( أنّ ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه ، فالتفرقة في الرسم بين ( ما ) الكافّة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى ، وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير .
و { من شيء } بيان لعموم ( ما ) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة . والفاء في قوله : { فأن لله خمسه } لما في الموصول من معنى الاشتراط ، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل : إن غنمتم فحقّ لله خمسُهُ إلخ .
والمصدر المؤوّل بعد ( أنّ ) في قوله : { فأن لله خمسه } مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق ، أي فحقّ لله خمسهُ . وإنّما صيغ على هذا النظم ، مع كون معنى اللام كافياً في الدلالة على الأحقّيّة ، كما قرىء في الشاذ { فللَّه خمسه } لما يفيده الإتيان بحرف ( أنّ ) من الإسناد مرتين تأكيداً ، ولأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيراً لوجوه الاحتمال في المقدّر ، من نحو تقدير : حقّ ، أو ثبات ، أو لازم ، أو واجب .
واللام للملك ، أو الاستحقاق ، وقد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير { غنمتم } فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها .
وقد جعل الله خمس الغنيمة حقّا لله وللرسول ومن عطف عليهما ، وكان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش ، ويسمّى ذلك « المرباع » بكسر الميم .
وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقَّاً لله ، من غير ما فيه عبادة له : أنّ ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه ، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع ، فالمعنى في قوله : { فأن لله خمسه } أنّ الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ الله يصرفه حيث يشاء ، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين . وبهذا التأويل يكون الخمس مقسوماً على خمسة أسهم ، وهذا قول عامّة علماء الإسلام وشذّ أبو العالية رفيع الرياحي ولاء من التابعين ، فقال : إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة : أي على وجه يشبه القرعة ، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة : سهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل . ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وأمّا الرسول عليه الصلاة والسلام فلحقه حالتان : حالة تصرّفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة ، وحالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك . فلذلك ثبت في الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله ، ويجعل الباقي مجعل مال الله . وفي الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفيء " مالي ممّا أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم " فيقاس عليه خمس الغنيمة ، وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحقّ في مال الله . وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب في محاورته مع العباس وعلي ، حين تحاكما إليه ، رواه مالك في « الموطأ » ورجال « الصحيح » ، قال عمر : « إنّ الله كان قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين } [ الحشر : 7 ] فكانت هذه خالصة لرسول الله ، ووالله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال . فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
والغرض من جلب كلام عمر قوله : « ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
وأمّا ذو { القربى } ف ( أل ) في { القربى } عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 177 ] { وآتى المال على حبه ذوي القربى } أي ذوي قرابة المؤتي المال . والمراد هنا هو ( الرسول ) المذكور قبله ، أي ولذوي قربى الرسول ، والمراد ب ( ذي ) الجنس ، أي : ذوي قربى الرسول ، أي : قرابته ، وذلك إكرام من الله لرسوله إذ جعل لأهل قرابته حقّاً في مال الله ، لأن الله حرّم عليهم أخذ الصدقات والزكاة . فلا جرم أنّه أغناهم من مال الله . ولذلك كان حقّهم في الخمس ثابتاً بوصف القرابة .
فذو القربى مراد به كلّ من اتّصف بقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام في الأشخاص ، ولكن لفظ { القربى } جنس فهو مجمل ، وأجملت رتبة القرابة إحالة على المعروف في قربى الرجل ، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمّهات . ثم إنّ نسب الآباء بين العرب يعدّ مشتركاً إلى الحَدّ الذي تنشقّ منه الفصائل ، ومحملها الظاهر على عَصبة الرجل من أبناء جدّه الأدنى . وأبناء أدنى أجداد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم ، وإن شئت فقل : هم بنو هاشم ، لأنّ هاشماً لم يبقَ له عقب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ مِن عبد المطلب ، فالأرجح أنّ قربى الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم ، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه ، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل ، وقاله ابن عبّاس ، وعلي بن الحسين ، وعبد الله بن الحسن ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والثوري . وذهب الشافعي ، وأحمد في إحدى روايتين عنه ، التي جرى عليها أصحابه ، وإسحاق وأبو ثور : أنّ القربى هنا : هم بنو هاشم وبنو المطلب ، دون غيرهم من بني عبد مناف . ومال إليه من المالكية ابنُ العربي ، ومتمسّك هؤلاء ما رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، عن جبير بن مُطعِم : أنّه قال : أتيت أنا وعثمان بن عفّان رسولَ الله نكلّمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله : قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتُنا وقرابتهم واحدة فقال : « إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، ولا في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم . ولكن فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يحتمل العموم في الأموال المعطاة ويحتمل الخصوص لأمور : أحدها : أنّ للنبيء صلى الله عليه وسلم في حياته سهماً من الخمس فيحتمل أنّه أعطى بني المطلب عطاء من سهمه الخاصّ ، جزاء لهم على وفائهم له في الجاهلية ، وانتصارهم له ، وتلك منقبة شريفة أيّدوا بها دعوة الدين وهم مشركون ، فلم يضعها الله لهم ، وأمر رسوله بمواساتهم ، وذلك لا يكسبهم حقّاً مستمراً .
ثانيها : أنّ الحقوق الشرعية تستند للأوصاف المنضبطة ، فالقربى هي النسب ، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهاشم ، وأمّا بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس وبنو نوفل في رتبة واحدة من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ آباءَهم هم أبناء عبد مناف ، وأخوة لهاشم ، فالذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروه في الجاهلية كانت لهم المزية ، وهم الذين أعطى رسولُ الله أعيانهم ولم يثبت أنّه أعطى من نشأ بعدهم من أبنائهم الذين لم يحضروا ذلك النصر ، فمن نشأ بعدهم في الإسلام يساوون أبناء نوفل وأبناء عبد شمس ، فلا يكون في عطائه ذلك دليل على تأويل ذي القربى في الآية ببني هاشم وبني المطلب .
أمّا قول أبي حنيفة فقال الجصاص في « أحكام القرآن » : قال أبو حنيفة في « الجامع الصغير » : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم ( أي ولم يتعرّض لسهم ذوي القربى ) وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : خمس الله والرسول واحدٌ ، وخمسٌ لذي القربى فلكلّ صنف سمّاه الله تعالى في هذه الآية خمُس الخمس قال : وإنّ الخلفاء الأربعة متّفقون على أنّ ذا القربى لا يستحقّ إلاّ بالفقر . قال : وقد اختلف في ذوي القربى من هم ؟ فقال أصحابنا : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حَرّم عليهم الصدقة وهم ( آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب ) وقال آخرون : بنو المطلب داخلون فيهم .
وقال أصبغ من المالكية : ذوو القربى هم عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون الذين أمره الله بإنذارهم في قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وهم آل قُصي . وعنه أنّهم آل غالب بن فهر ، أي قريش ، ونسب هذا إلى بعض السلف وأخرَج أبو حنيفة من القربى بني أبي لهب قال : لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا قرابة بيني وبين أبي لهب فإنّه آثر علينا الأفجرين " رواه الحنفية في كتاب الزكاة ، ولا يعرف لهذا الحديث سند ، وبعد فلا دلالة فيه ، لأنّ ذلك خاصّ بأبي لهب فلا يشمل أبناءه في الإسلام . ذكر ابن حجر في { الإصابة } أنّ محمد بن إسحاق ، وغيره . روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قدمت دُرة بنت أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ الناس يصيحون بي ويقولون : إنّي بنت حطَب النار ، فقام رسول الله ؛ وهو مغضَب شديدَ الغضب ، فقال : « ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألاَ ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله » . فوصف درّة بأنّها من نسبه . والجمهور على أنّ ذوي القربى يستحقّون دون اشتراط الفقر ، لأنّ ظاهر الآية أنّ وصف قربى النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب ثبوت الحقّ لهم في خمس المغنم دون تقييد بوصف فقرهم ، وهذا قول جمهور العلماء .
وقال أبو حنيفة : لا يعطَون إلاّ بوصف الفقر وروي عن عمر بن عبد العزيز . ففائدة تعيين خمس الخمس لهم أنّ لا يحاصهم فيه مَن عَداهم من الفقراء ، هذا هو المشهور عن أبي حنيفة ، وبعض الحنفية يحكي عن أبي يوسف موافقةَ الجمهور في عدم اشتراط الفقر فيهم .
وقد جعل الله الخمس لخمسةِ مصارف ولم يعيّن مقدار ما لكلّ مصرف منه ، ولا شكّ أنّ الله أراد ذلك ؛ ليكون صرفه لمصارفه هذه موكولاً إلى اجتهاد رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده ، فيقسم بحسب الحاجات والمصالح ، فيأخذ كلّ مصرف منه ما يفي بحاجته على وجه لا ضرّ معه على أهل المصرف الآخر ، وهذا قول مالك في قسمة الخمس ، وهو أصح الأقوال ، إذ ليس في الآية تعرّض لمقدار القسمة ، ولم يَرد في السنة ما يصحّ التمسك به لذلك ، فوجب أن يناط بالحاجة ، وبتقديم الأحوج والأهمّ عند التضايق ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الإمام ، وقد قال عمر : « فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
وقال الشافعي : يقسم لكلّ مصرف الخمس من الخمس ، لأنها خمسة مصارف ، فجعلها متساوية ، لأنَّ التساوي هو الأصل في الشركة المجملة ولم يلتفت إلى دليل المصلحة المقتضية للترجيح وإذ قد جَعل ما لله ولرسوله خمساً واحداً تبعاً للجمهور فقد جعله بعد رسول الله لمصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة : ارتفع سهم رسول الله وسهم قرابته بوفاته ، وبقي الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل ، لأنّ رسول الله إنّما أخذ سهماً في المغنم لأنّه رسول الله ، لا لأنّه إمام ، فلذلك لا يخلفه فيه غيره .
وعند الجمهور أنّ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الإمام ، يبدأ بنفقته ونفقة عياله بلا تقدير ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .
{ واليتامى والمساكين وابن السبيل } تقدّم تفسير معانيها عند قوله تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 177 ] وعند قوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا إلى قوله وابن السبيل } [ النساء : 36 ] .
واليتامى وابن السبيل لا يعطون إلاّ إذا كانوا فقراء ففائدة تعيين خمس الخمس لكلّ صنف من هؤلاء أن لا يحاصهم فيه غيرهم من الفقراء والشأن ، في اليتامى في الغالب أن لا تكون لهم سعة في المكاسب فهم مظنّة الحاجّة ، ولكنّها دون الفقر فجُعل لهم حقّ في المغنم توفيراً عليهم في إقامة شؤونهم ، فهم من الحاجة المالية أحسن حالاً من المساكين ، وهم من حالة المقدرة أضعف حالاً منهم ، فلو كانوا أغنياء بأموال تركها لهم آباؤهم فلا يعطون من الخمس شيئاً .
والمساكينُ الفقراء الشديدو الفقرِ جعل الله لهم خمس الخمس كما جعل لهم حقّاً في الزكاة ، ولم يجعَل للفقراء حقّاً في الخمس كما لم يجعل لليتامى حقّاً في الزكاة .
وابنُ السبيل أيضاً في حاجة إلى الإعانة على البلاغ وتسديد شؤونه ، فهو مظنّة الحاجة ، فلو كان ابن السبيل ذا وفْر وغنىً لم يعط من الخمس ، ولذلك لم يشترط مالك وبعض الفقهاء في اليتامى وأبناءِ السبيل الفقر ، بل مُطلقَ الحاجة . واشترط أبو حنيفة الفقر في ذوي القربى واليتامى وأبناء السبيل ، وجعل ذكرِهم دون الاكتفاء بالمساكين ؛ لتقرير استحقاقهم .
وقوله : { إن كنتم آمنتم بالله } شرط يتعلق بما دلّ عليه قوله : { واعلموا أنما غنمتم } لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العملَ بالمعلوم والأمتثالَ لمقتضاه كما تقدّم ، صحّ تعلّق الشرط به ، فيكون قوله : { واعلموا } دليلاً على الجواب أوْ هو الجوابَ مقدّماً على شرطه ، والتقدير : إنْ كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ ما غنمتم إلخ . واعمَلوا بما علمتم فاقطعوا أطماعكم في ذلك الخمس واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، لأنّ الذي يتوقّف على تحقّق الإيمان بالله وآياته هو العِلم بأنّه حكم الله مع العمل المترتّب على ذلك العلم . مطلق العلم بأنّ الرسول قال ذلك .
والشرط هنا محقق الوقوع إذ لا شك في أنّ المخاطبين مؤمنون بالله والمقصود منه تحقّق المشروط ، وهو مضمون جملة { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } إلى آخرها . وجيء في الشرط بحرف ( إنْ ) التي شأن شرطها أن يكون مشكوكاً في وقوعه زيادة في حثّهم على الطاعة حيث يفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهاباً لهم ؛ ليبعثهم على إظهار تحقّق الشرط فيهم ، فالمعنى : أنكم آمنتم بالله والإيمانُ يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له وآمنتم بما أنزل الله على عبده يومَ بدر حين فرق الله بين الحقّ والباطل فرأيتم ذلك رأي العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حقّ اليقين إلى مرتبة عين اليقين فعلمتم أنّ الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، فكان ما دفعكم الله إليه أحفظ لمصلحتكم وأشدّ تثبيتاً لقوّة دينكم . فمَن رأوا ذلك وتحقّقوه فهم أحرياء بأن يعلموا أنّ ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة ، ولم يعبأوا بما يدخل عليهم من نقص في حظوظهم العاجلة ، علماً بأنّ وراء ذلك مصالحَ جمة آجلة في الدنيا والآخرة .
وقوله : { وما أنزلنا } عطف على اسم الجلالة ، والمعنى : وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ، وهذا تخلّص للتذكير بما حصل لهم من النصر يوم بدر ، والإيمانُ به يجوز أن يكون الاعتقاد الجازم بحصوله ، ويجوز أن يكون العلم به ، فيكون على الوجه الثاني من استعمال المشترك في معنييه ، أو من عموم المشترك .
وتخصيص { ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } بالذكر من بين جملة المعلومات الراجعة للاعتقاد ، لأن لذلك المُنْزَل مزيد تعلق بما أمروا به من العمل المعبر عنه بالأمر بالعلم في قوله تعالى : { واعلموا } .
والإنزالُ : هو إيصال شيء من علُوّ إلى سُفل ، وأطلق هنا على إبلاغ أمر من الله ، ومن النعم الإلهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فيجوز أن يكون هذا المُنزل من قبيل الوحي ، أي والوحي الذي أنزلناه على عبدنا يوم بَدر ، لكنه الوحي المتضمّن شيئاً يؤمنون به مثل قوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } [ الأنفال : 7 ] .
ويجوز أن يكون من قبيل خوارق العادات ، والألطاف العجيبة ، مثل إنزال الملائكة للنصر ، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه ، لتعبيد الطريق ، وتثبيتتِ الأقدام ، والاستقاء .
وإطلاق الإنزال على حصوله استعارة تشبيهاً له بالواصل إليهم من علوّ تشريفاً له كقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] . والتطهر ولا مانع من إرادة الجميع لأنّ غرض ذلك واحد ، وكذلك ما هو من معناه ممّا نعلمه أو لما علمناه .
و { يوم الفرقان } هو يوم بدر ، وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين سمّي يوم الفرقان ؛ لأنّ الفرقان الفرق بين الحقّ والباطل كما تقدّم آنفاً في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } [ الأنفال : 29 ] وقد كان يوم بدر فارقاً بين الحقّ والباطل ؛ لأنّه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء ، وهو نصر المحقّين الأذلّة على الأعزّة المبطلين ، وكفى بذلك فرقاناً وتمييزاً بين من هم على الحقّ ، ومن هم على الباطل .
فإضافة { يوم } إلى { الفرقان } إضافة تنويه به وتشريف ، وقوله : { يوم التقى الجمعان } بدل من { يوم الفرقان } فإضافة { يوم } إلى جملة : { التقى الجمعان } للتذكير بذلك الإلتقاء العجيب الذي كان فيه نصرهم على عدوّهم . والتعريف في { الجمعان } للعهد . وهما جمع المسلمين وجمع المشركين .
وقوله : { والله على كل شيء قدير } اعتراض بتذييل الآيات السابقة وهو متعلّق ببعض جملة الشرط في قوله : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } فإنّ ذلك دليل على أنّه لا يتعاصى على قدرته شيء ، فإنّ ما أسداه إليكم يوم بدر لم يكن جارياً على متعارف الأسباب المعتادة ، فقدرة الله قلبت الأحوال وأنشأت الأشياءَ من غير مجاريها ولا يبعد أن يكون من سبب تسمية ذلك اليوم { يوم الفرقان } أنّه أضيف إلى الفرقان الذي هو لَقب القرآن ، فإنّ المشهور أنّ ابتداء نزول القرآن كان يوم سبعة عشر من رمضان ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه .