قوله تعالى :{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي : مهورهن ، { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية ، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له { وبنات عمك وبنات عماتك } يعني : نساء قريش ، { وبنات خالك وبنات خالاتك } يعني : نساء بني زهرة ، { اللاتي هاجرن معك } إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها . وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له ، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل . { وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين } أي . أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه . واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر ؟ فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك ، لقوله : { وامرأة مؤمنة } وأول بعضهم الهجرة في قوله : { اللاتي هاجرن معك } على الإسلام ، أي : أسلمن معك . فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة ، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } كالزيادة على الأربع ، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه . واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومجاهد ، وعطاء ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي . وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة . ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم : فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه بلفظ الهبة ، لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } . وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل : { إن أراد النبي أن يستنكحها } وكان اختصاصه صلى الله عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح . واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن ؟ . فقال عبد الله بن عباس ، ومجاهد : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله : { إن وهبت نفسه } على طريق الشرط والجزاء . وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية ، يقال لها : أم المساكين . وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث . وقال علي بن الحسين ، والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد . وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم . قوله عز وجل : { قد علمنا ما فرضنا عليهم } أي : أوجبنا على المؤمنين ، { في أزواجهم } من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ، { وما ملكت أيمانهم } أي : ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، { لكيلا يكون عليك حرج } وهذا يرجع إلى أول الآية أي : أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق . { وكان الله غفوراً رحيما* }
{ 50 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
يقول تعالى ، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه ، هو والمؤمنون ، وما ينفرد به ، ويختص : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي : أعطيتهن مهورهن ، من الزوجات ، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين ، [ فإن المؤمنين ]{[714]} كذلك يباح لهم ما{[715]} آتوهن أجورهن ، من الأزواج .
{ و } كذلك أحللنا لك { مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي : الإماء التي ملكت { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } من غنيمة الكفار من عبيدهم ، والأحرار من لهن زوج منهم ، ومن لا زوج لهن ، وهذا أيضا مشترك .
وكذلك من المشترك ، قوله { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ } شمل العم والعمة ، والخال والخالة ، القريبين والبعيدين ، وهذا حصر المحللات .
يؤخذ من مفهومه ، أن ما عداهن من الأقارب ، غير محلل ، كما تقدم في سورة النساء ، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء ، غير هؤلاء الأربع ، وما عداهن من الفروع مطلقًا ، والأصول مطلقًا ، وفروع الأب والأم ، وإن نزلوا ، وفروع من فوقهم لصلبه ، فإنه لا يباح .
وقوله { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قيد لحل هؤلاء للرسول ، كما هو الصواب من القولين ، في تفسير هذه الآية ، وأما غيره عليه الصلاة والسلام ، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة .
{ و } أحللنا لك { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } بمجرد هبتها نفسها .
{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي : هذا تحت الإرادة والرغبة ، { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : إباحة الموهبة{[716]} وأما المؤمنون ، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة ، بمجرد هبتها نفسها لهم .
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي : قد علمنا ما على المؤمنين ، وما يحل لهم ، وما لا يحل ، من الزوجات وملك اليمين . وقد علمناهم بذلك ، وبينا فرائضه .
فما في هذه الآية ، مما يخالف ذلك ، فإنه خاص لك ، لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ } إلى آخر الآية .
وقوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم ، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك ، { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة ، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته ، وجوده وإحسانه ، ما اقتضته حكمته ، ووجدت منهم أسبابه .
يقول تعالى مخاطبا نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مُهُورَهُنَّ ، وهي الأجور هاهنا . كما قاله مجاهد وغير واحد ، وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي{[23660]} عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف{[23661]} أوقية ، فالجميع خمسمائة درهم ، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي ، رحمه الله ، أربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها . وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية ، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ، رضي الله عن جميعهن{[23662]} .
وقوله : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } أي : وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم{[23663]} ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما . وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم ، عليه السلام ، وكانتا من السراري ، رضي الله عنهما .
وقوله : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } : هذا عدل وَسط بين الإفراط والتفريط ؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا ، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته ، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى ، فأباح بنت العم والعمة ، وبنت الخال والخالة ، وتحريم{[23664]} ما فَرّطت{[23665]} فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت ، وهذا بشع{[23666]} فظيع .
وإنما قال : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ } فَوَحَّدَ لفظ الذكر لشرفه ، وجمع الإناث لنقصهن كقوله : { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [ النحل : 48 ] ، { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] ، وله نظائر كثيرة .
وقوله : { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله :
حدثنا محمد بن عمار بن{[23667]} الحارث الرازي ، حدثنا عبيد الله {[23668]} بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح{[23669]} ، عن أم هانئ قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذري ، ثم أنزل الله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ } إلى قوله : { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت : فلم أكن أحل له ، ولم أكن ممن هاجر معه ، كنت من الطلقاء . ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن عبيد الله بن موسى ، به{[23670]} .
ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، عنها بنحوه .
ورواه الترمذي في جامعه{[23671]} . وهكذا قال أبو رَزين وقتادة : إن المراد : من هاجر معه إلى المدينة . وفي رواية عن قتادة : { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي : أسلمن . وقال الضحاك : قرأ ابن مسعود : " واللاتي هَاجَرْنَ مَعَك " .
وقوله : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي : ويحل لك - يأيها النبي - المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك . وهذه الآية توالى فيها شرطان ، كقوله تعالى إخبارًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] ، وكقول موسى : { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] .
وقال هاهنا : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } وقد قال الإمام أحمد{[23672]} :
حدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله ، إني قد وَهَبت نفسي لك . فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زَوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل عندك من شيء تُصدقها إياه " ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعطيتها إزارك جلستَ لا إزار لك ، فالتمس شيئا " . فقال : لا أجد شيئا . فقال : " التمس ولو خاتما من حديد " فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء ؟ " قال : نعم ؛ سورة كذا ، وسورة كذا - لسور يسميها - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " زوجتكها بما معك من القرآن " .
أخرجاه من حديث مالك{[23673]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان{[23674]} ، حدثنا مرحوم ، سمعت ثابتا يقول{[23675]} : كنت مع أنس جالسا وعنده ابنة له ، فقال أنس : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ، هل لك فيّ حاجة ؟ فقالت ابنته : ما كان أقل حياءها . فقال : " هي خير منك ، رغبت في النبي ، فعرضت عليه نفسها " .
انفرد بإخراجه البخاري ، من حديث مرحوم بن عبد العزيز [ العطار ]{[23676]} ، عن ثابت البُنَاني ، عن أنس ، به{[23677]} .
وقال{[23678]} أحمد أيضا : حدثنا عبد الله بن بكر ، حدثنا سِنان بن ربيعة ، عن الحضرمي ، عن أنس بن مالك : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ابنة لي كذا وكذا . فذكرت من حسنها وجمالها ، فآثرتك بها . فقال : " قد قبلتها " . فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تَشْتَك شيئًا قط ، فقال : " لا حاجة لي في ابنتك " . لم يخرجوه{[23679]} .
وقال{[23680]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مُزَاحم ، حدثنا ابن أبي الوضاح - يعني : محمد بن مسلم - عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم{[23681]} .
وقال ابن وهب ، عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزِّنَاد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن خولة بنت حكيم بن الأوقص ، من بني سُلَيم ، كانت من اللاتي وَهَبْن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم{[23682]} .
وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن هشام ، عن أبيه : كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة صالحة{[23683]} .
فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم ، أو هي امرأة أخرى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي ، حدثنا وَكِيع ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، وعمر بن الحكم ، وعبد الله بن عبيدة قالوا : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة ، ست من قريش ، خديجة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة . وثلاث من بني عامر بن صَعْصَعَة ، وامرأتان من بني هلال بن عامر : ميمونة بنت الحارث ، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وزينب أم المساكين - امرأة من بني أبي بكر بن كلاب من القرطاء - وهي التي اختارت الدنيا ، وامرأة من بني الجون ، وهي التي استعاذت منه ، وزينب بنت جحش الأسدية ، والسبيتان صفية بنت حيي بن أخطب ، وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية{[23684]} .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن ابن عباس : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } قال : هي ميمونة بنت الحارث .
فيه انقطاع : هذا مرسل ، والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خُزَيمة الأنصارية ، وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ، فالله أعلم .
والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم كثير ، كما قال{[23685]} البخاري ، حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا أبو أسامة قال : هشام بن عروة حدثنا عن أبيه ، عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم وأقول : أتهب امرأة{[23686]} نفسها ؟ فلما أنزل الله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } قلت : ما أرى ربك إلا يُسَارع في هواك{[23687]} .
وقد قال{[23688]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن منصور الجعفي ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن عَنْبَسَة بن الأزهر ، عن سِماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له .
ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن يونس بن بُكَيْر{[23689]} . أي : إنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له ، وإن كان ذلك مباحا له ومخصوصا به ؛ لأنه مردود إلى مشيئته ، كما قال الله تعالى : { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي : إن اختار ذلك .
وقوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قال عكرمة : أي : لا تحل الموهوبة لغيرك ، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا . وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما .
أي : إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل ، فإنه متى دخل بها وجب لها عليه بها مهر مثلها ، كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَع{[23690]} بنت واشق لما فوضت ، فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها ، والموت والدخول سواء في تقرير{[23691]} المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو ، عليه السلام ، فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها ؛ لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود ، كما في قصة زينب بنت جحش ، رضي الله عنها . ولهذا قال قتادة في قوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ، يقول : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم .
[ وقوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ] {[23692]} قال أبي بن كعب ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وابن جرير في قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } أي : من حَصْرِهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا{[23693]} من الإماء ، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم ، وهم الأمة ، وقد رخصنا لك في ذلك ، فلم نوجب عليك شيئا منه ؛ { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ يعني : اللاتي تزوّجتهنّ بصداق مسمى ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ قال : صدقاتهنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيّهَا النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ قال : كان كل امرأة آتاها مهرا ، فقد أحلها الله له .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزَوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله : خِالصَةً لَكَ مِنْ دُون المُؤْمِنِينَ فما كان من هذه التسمية ما شاء كثيرا أو قليلاً .
وقوله : وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ممّا أفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ يقول : وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهنّ ، فملكتهنّ بالسباء ، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء وَبَناتِ عَمّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ فأحلّ الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، المهاجرات معه منهنّ دون من لم يهاجر منهنّ معه ، كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن أمّ هانىء ، قالت : خطبني النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت له بعذري ، ثم أنزل الله عليه : إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قالت : فلم أحلّ له ، لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء .
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : «وَبَناتِ خالاتِكَ وَاللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ » بواو وذلك وإن كان كذلك في قراءته محتمل أن يكون بمعنى قراءتنا بغير الواو ، وذلك أن العرب تدخل الواو في نعت من قد تقدم ذكره أحيانا ، كما قال الشاعر :
فإِنّ رُشيدا وَابنَ مَرْوَانَ لَمْ يَكُنْ *** لِيَفْعَلَ حتى يَصْدُرَ الأَمْرُ مَصْدَرَا
ورشيد هو ابن مروان . وكان الضحاك بن مزاحم يتأوّل قراءة عبد الله هذه أنهنّ نوع غير بنات خالاته ، وأنهنّ كل مهاجرة هاجرت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر عنه بذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في حرف ابن مسعود : «وَاللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ » يعني بذلك : كلّ شيء هاجر معه ليس من بنات العمّ والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة .
وقوله : وَامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ يقول : وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ بغير صداق ، فلم يكن يفعل ذلك ، وأحلّ له خاصة من دون المؤمنين .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «وَامْرأةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ » بغير إن ، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها «إن » واحد ، وذلك كقول القائل في الكلام : لا بأس أن يطأ جارية مملوكة إن ملكها ، وجارية مملوكة ملكها .
وقوله إنْ أرَادَ النّبِيّ أنْ يَسْتَنْكِحَها يقول : إن أراد أن ينكحها ، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر خالِصَةً لَكَ يقول : لا يحلّ لأحد من أمّتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له ، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ يقول : ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر وليّ ولا مهر ، إلا للنبيّ ، كانت له خالصة من دون الناس . ويزعمون أنها نزلت في ميمونة بنت الحارث أنها التي وهبت نفسها للنبيّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى قوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهنّ له ، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن صالح بن مسلم ، قال : سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل ، قال : لا يكون ، لا تحلّ له ، إنما كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : إنْ وَهَبَتْ بكسر الألف على وجه الجزاء ، بمعنى : إن تهب . وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : «أنْ وَهَبَتْ » بفتح الألف ، بمعنى : وأحللنا له امرأة مؤمنة أن ينكحها ، لهبتها له نفسها .
والقراءة التي لا أستجيز خلافها في كسر الألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وأما قوله : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ليس ذلك للمؤمنين . وذُكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الاَية أن يتزوّج أيّ النساء شاء ، فقصره الله على هؤلاء ، فلم يعدُهن ، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورُباع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد رجل من الأنصار ، عن أبيّ بن كعب ، أن التي أحلّ الله للنبيّ من النساء هؤلاء اللاتي ذكر الله يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله : فِي أزْوَاجِهِمْ وإنما أحلّ الله للمؤمنين مثنى وثُلاث ورُباع .
وحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى آخر الاَية ، قال : حرّم الله عليه ما سوى ذلك من النساء وكان قبل ذلك ينكح في أيّ النساء شاء ، لم يحرّم ذلك عليه ، فكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أيّ الناس أحبّ فلما أنزل الله : إني قد حرّمت عليك من الناس سوى ما قصصت عليك ، أعجب ذلك نساءه .
واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات ، وهل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك ؟ فقال بعضهم : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهنّ أحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عنبسة بن الأزهر ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ قال : أن تهب .
وأما الذين قالوا : قد كان عنده منهن ، فإن بعضهم قال : كانت ميمونة بنت الحارث . وقال بعضهم : هي أمّ شريك . وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ قال : هي ميمونة بنت الحارث .
وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : ثني الحكم ، قال : كتب عبد الملك إلى أهل المدينة يسألهم ، قال : فكتب إليه عليّ ، قال شعبة : وهو ظني عليّ بن حسين ، قال : وقد أخبرني به أبان بن تغلب ، عن الحكم ، أنه عليّ بن الحسين ، الذي كتب إليه ، قال : هي امرأة من الأسد يقال لها أمّ شريك ، وهبت نفسها للنبيّ .
قال : ثنا شعبة ، قال : ثني عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، أنها امرأة من الأنصار ، وهبت نفسها للنبيّ ، وهي ممن أرجأ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم ، كانت من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثني سعيد بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كنا نتحدّث أن أمّ شريك كانت وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة صالحة .
وقوله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهنّ مما لم نفرضه عليك ، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك ، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحلّ لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بوليّ عَصَبة وشهود عدول ، ولا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوّيَه ، قال : حدثنا مطهر ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : ثني أبي ، عن مطر ، عن قتادة ، في قول الله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بوليّ وشاهدين .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : في الأربع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوّج امرأة إلا بوليّ وصداق عند شاهدي عدل ، ولا يحلّ لهم من النساء إلا أربع ، وما ملكت أيمانهم .
وقوله : وَما مَلَكَتْ أيمانُهُمْ يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم ، لأنه لا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع ، وما ملكت أيمانهم ، فإن جميعهن إذا كنّ مؤمنات أو كتابيات ، لهم حلال بالسباء والتسرّي وغير ذلك من أسباب الملك . وقوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما يقول تعالى ذكره : إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الاَية ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ ، إن أراد النبيّ أن يستنكحها ، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهنّ من المسميّات في هذه الاَية ، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك ، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} النساء التسع {التي آتيت أجورهن و} أحللنا لك {وما ملكت يمينك} بالولاية: مارية القبطية أم إبراهيم، وريحانة بنت عمرو اليهودي، وكانت سبيت من اليهود.
{مما أفاء الله عليك و} أحللنا لك {وبنات عمك وبنات عمتك وبنات خالك وبنات خالاتك التي هاجرن معك} إلى المدينة، إضمار فإن كانت لم تهاجر إلى المدينة فلا يحل تزويجها.
{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} أن يتزوجها بغير مهر، وهي أم شريك بنت جابر بن ضباب بن حجر من بني عامر بن لؤي، وكانت تحت أبي الفكر الأزدي، وولدت له غلامين شريكا ومسلما... ثم توفى عنها زوجها أبو الفكر، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، ولو فعله لكان له خاصة دون المؤمنين، فإن وهبت امرأة يهودية أو نصرانية أو أعرابية نفسها فإنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها.
{خالصة لك} الهبة خاصة لك، يا محمد {من دون المؤمنين} لا تحل هبة المرأة نفسها بغير مهر لغيرك من المؤمنين...
{قد علمنا ما فرضنا عليهم} ما أوجبنا على المؤمنين {في أزواجهم} ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة.
{و} أحللنا لهم {وما ملكت أيمانهم} جماع الولاية {لكيلا يكون عليك} يا محمد {حرج} في الهبة بغير مهر، فيها تقديم.
{وكان الله غفورا رحيما} غفورا في التزويج بغير مهر للنبي صلى الله عليه وسلم، رحيما في تحليل ذلك له.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ" يعني: اللاتي تزوّجتهنّ بصداق مسمى... وقوله: "وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ممّا أفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ "يقول: وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهنّ، فملكتهنّ بالسباء، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء "وَبَناتِ عَمّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ" فأحلّ الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، المهاجرات معه منهنّ دون من لم يهاجر منهنّ معه... وقوله: "وَامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ" يقول: وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق... عن مجاهد، قوله: "وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ" بغير صداق، فلم يكن يفعل ذلك، وأحلّ له خاصة من دون المؤمنين...
وقوله: "إنْ أرَادَ النّبِيّ أنْ يَسْتَنْكِحَها" يقول: إن أراد أن ينكحها، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر "خالِصَةً لَكَ" يقول: لا يحلّ لأحد من أمّتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك...
وأما قوله: "خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ" ليس ذلك للمؤمنين. وذُكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الآية أن يتزوّج أيّ النساء شاء، فقصره الله على هؤلاء، فلم يعدُهن، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورُباع... واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات، وهل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك؟ فقال بعضهم: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهنّ أحد...
وأما الذين قالوا: قد كان عنده منهن، فإن بعضهم قال: كانت ميمونة بنت الحارث. وقال بعضهم: هي أمّ شريك. وقال بعضهم: زينب بنت خزيمة...
وقوله: "قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ" يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهنّ مما لم نفرضه عليك، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحلّ لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بوليّ عَصَبة وشهود عدول، ولا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع... وقوله: "وَما مَلَكَتْ أيمانُهُمْ" يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم، لأنه لا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع، وما ملكت أيمانهم، فإن جميعهن إذا كنّ مؤمنات أو كتابيات، لهم حلال بالسباء والتسرّي وغير ذلك من أسباب الملك. وقوله: "لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما" يقول تعالى ذكره: إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الآية، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ، إن أراد النبيّ أن يستنكحها، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهنّ من المسميّات في هذه الآية، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وسَّعْنَا الأمرَ عليكَ في باب النكاح بكم شِئْتَ؛ فإنك مأمونٌ من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن، ومن الحَيْفِ عليهن، والتَّوْسعةُ في بابِ النكاحَ تَدُلُّ على الفضيلة كالحُرِّ والعبد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أُجُورَهُنَّ} مهورهنّ: لأنّ المهر أجر على البضع.
إيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلاً. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: {نَفْسَهَا لِلنَّبِي إِنْ أَرَادَ النبي} ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي، للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته.
استنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ من الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا من السَّمَاءِ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك} وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ من عَمَلِهِ، وَيَطَأُ من مَلْكِ يَمِينِهِ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، لَا من الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: {وَبَنَاتِ عَمِّك} فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا، وَقَالَ: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِك} فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ: وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ من مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ من الْوَاهِبِ هِبَتَهُ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي، رحمه الله، أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، رضي الله عن جميعهن.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبداً، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره: {يا أيها النبي} ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} أي نكاحهن...
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: {اللاتي آتيت} أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره {أجورهن} أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل {وما ملكت يمينك}.
ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: {مما أفاء} أي رد {الله} الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له، وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم {وبنات عمك} الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.
ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجمع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: {وبنات عماتك} من نساء بني عبد المطلب.
ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: {وبنات خالك} جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه.
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الأعمال فقال: {اللاتي هاجرن} وأشار بقوله: {معك} إلى أن الهجرة قبل الفتح
{أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في علمه سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف...
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، و أتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: {وامرأة} أي وأحللنا لك امرأة {مؤمنة} أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة {إن وهبت نفسها للنبي}.
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف، لأنه لو قال "لك "كان ربما وقع في بعض الأوهام -كما قال الزجاج- أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: {إن أراد النبي} أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة {أن يستنكحها} أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر {أحللنا} مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله: {من دون المؤمنين} أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت {ترجى من تشاء منهن} قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: {قد} أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد {علمنا ما فرضنا} أي قدرنا بعظمتنا.
ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعا لا بد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي المؤمنين {في أزواجهم} أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال: {وما ملكت أيمانهم} أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة. ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" خفف عنه سبحانه بقوله: {وكان الله} أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} أي بليغ الستر فهو إن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتِ جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبنّاه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء} الآية ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.
معنى {وهبت نفسها للنبيء} أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين.