قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء } . يعني : يا هؤلاء ، وهؤلاء للتنبيه .
قوله تعالى : { تقتلون أنفسكم } . أي يقتل بعضكم بعضاً .
قوله تعالى : { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم } . بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله تعالى : ( ولا تعاونوا ) معناهما جميعاً : تتعاونون ، والظهير : العون .
قوله تعالى : { بالإثم والعدوان } . المعصية والظلم .
قوله تعالى : { وإن يأتوكم أسارى } . قرأ حمزة : أسرى ، وهما جمع أسير ، ومعناهما واحد .
قوله تعالى : { تفادوهم } . بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي ويعقوب تفادوهم أي تبادلوهم ، أراد : مفاداة الأسير بالأسير ، وقيل : معنى القراءتين واحد . ومعنى الآية قال السدي : إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، وكانوا يقاتلون في حرب سنين فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم وبنو النضير مع حلفائهم وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم ، فتعيرهم العرب ويقولون : كيف تقاتلونهم قالوا :إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون : فلم تقاتلوهم قالوا : إنا نستحيي أن تذل حلفاؤنا ، فعيرهم الله تعالى بذلك فقال : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان .
قوله تعالى : { وهو محرم عليكم إخراجهم } . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتال ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم ، وفداء أسراهم ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء .
قوله تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } . قال مجاهد : يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك .
قوله تعالى : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } . يا معشر اليهود .
قوله تعالى : { إلا خزي } . عذاب وهوان .
قوله تعالى : { في الحياة الدنيا } . فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام .
قوله تعالى : { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } . وهو عذاب النار .
قوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } . قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود ، بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة .
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم{[92]} الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا .
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج .
وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي ، وأن المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد وقع ذلك فأخزاهم الله ، وسلط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي : أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون ؟
( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .
ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج . كان الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيان أشد ما يكون حيان من العرب عداء . وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين . . كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان ينو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي اليهودي من الفريق الآخر - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا الأسارى ، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا أو هناك ، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء حلفائهم على السواء - وذلك عملا بحكم التوراة وقد جاء فيها : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته . .
هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن ؛ وهو يسألهم في استنكار :
( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .
وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا ، والعذاب الأشد في الآخرة . مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا متجاوزا :
( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب . وما الله بغافل عما تعملون ) . .
والعطف بثم في قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : { هؤلاء } لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالباً بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهوالمعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالباً أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل .
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيءَ عينَ شيء يبحث عنه في نفسه نحو « أنت أبا جهل » قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخناً بالجراح صريعاً ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو « قال أنا يوسف وهذا أخي » فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : « أنا ذلك » إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن نَدبة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ** * تَأَمَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذلكا{[144]} *
…………………… . . *** فتوسموني إنني أنا ذالكم{[145]} *
وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم :
ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا « بها التنبيهِ » فقالوا : هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر :
* إن الفتى مَن يقول ها أنا ذا{[146]} *
فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوماً اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب : الأولى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } ، الثانية : { ها أنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] . ومنه « ها أنا ذا لديكما » قاله أمية بن أبي الصلت . الثالثة { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } [ النساء : 109 ] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضراً وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا ، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيباً كما رأيت في الأمثلة .
والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبراً والجملة بعدهما حالاً ، وقيل : هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب ، وقيل : الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه ، وقيل : اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف .
وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوباً على الحال وقيل : مرفوعاً على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله :
* أبا حَكَم ها أنتَ نَجْمٌ مُجَالد *
ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة « التسهيل » بقوله : وها أنا ساع فيما انتدبت إليه ، وجاء ابن هشام في خطبة « المغني » بقوله : وها أنا مبيح بما أسررته .
واختلف النحاة أيضاً في أن وقوع الضمير بعد ( ها ) التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في « التسهيل » هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في « حواشي التسهيل » بنقل الدماميني في « الحواشي المصرية » في الخطبة وفي الهاء المفردة . وقال الرضى إن دخول ( ها ) التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من « شواهد الرضي » :
تَعَلَّمَنْ هَا لعمرُ الله ذا قسما *** فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك
وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة :
ها إنّ تَاعذرة إن لا تكن نفعت *** فإن صاحبها قد تاه في البلد
وقوله : { تقتلون } حال أو خبر . وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } .
وجعل في « الكشاف » المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مراداً به أسلاف الحاضرين وجعل قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مراداً منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها ، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف .
وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم{[147]} والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ . وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمناً طويلاً والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم : إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلاماً من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم . ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم : إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم : « يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم » فلما أجابت قريظة والنضير عمراً بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم ، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالاً وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودَ بذلك وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا : قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى : { وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } .
الواو في قوله : { وإن يأتوكم أُسارى } يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله : { تقتلون أنفسكم وتخرجون } فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات . ولك أن تجعل الواو للحال من قوله : { وتخرجون فريقاً } أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم . وكيفما قدرت فقوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } جملة حالية من قوله : { يأتوكم } إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرماً وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة { وهو محرم عليكم إخراجهم } حالية من ضمير { تفادوهم } . وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله : { وتخرجون فريقاً منكم } وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله : { ولا تخرجون أنفسكم } .
وفي قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم } تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء ؟ .
وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتياً بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية .
والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلاً له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا : كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى . وقيل : هو جمع نادر وليس مبنياً على حمل ، كما قالوا قدَامى جمع قديم . وقيل : هو جمعُ جمعٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر . والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجِلد ، قال النابغة :
لم يبقَ غيرُ طريدٍ غيرِ مُنْفَلِت *** أو موثَقٍ في حِباله القدِّ مسلوبِ
وقرأ الجمهور ( أُسارى ) ، وقرأه حمزة ( أَسْرَى ) .
وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب { تفادوهم } بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصاً ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرىء القيس :
فعادَى عداء بين ثور ونعجة *** دراكاً فلم ينضح بماء فيغسل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف { تفدوهم } بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء .
والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعاً شديداً أو الممنوع منعاً من قبل الدين ، ولذلك قالوا : الأشهر الحرم وشهر المحرم .
وقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الاتباع والإعراض إيماناً وكفراً على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به ، وإنما وقع { تؤمنون } في حيز الإنكار تنبيهاً على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين .
والفاء عاطفة على { تقتلون أنفسكم } ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدراً دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريباً عند قوله { أفكلما جاءكم رسول } [ البقرة : 86 ] .
والفاء في قوله : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ . وقال عبد الحكيم : إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظاً ، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيداً لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكماً جديداً وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم .
والخزي بالكسر ذل في النفس طارىء عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء ، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم .
وقرأ الجمهور { يُردون } و { يعملون } بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه { تردون } بتاء الخطاب نظراً إلى معنى ( من ) وإلى قوله ( منكم ) ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب : ( يعملون ) بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب .
وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة .
وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله : { أولئك الذين اشتروا } موقع نظيره في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم أنتم هؤلاء} معشر اليهود بالمدينة
{تقتلون أنفسكم}...: يقتل بعضكم بعضا،
{منكم من ديارهم تظاهرون}...: تعاونون
ومكتوب عليهم في التوراة أن يفدوا أسراهم فيشتروهم إذا أسرهم أهل الروم في القتال إن كان عبدا أو أمة...
{وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب}، يقول: تصدقون ببعض ما في التوراة لمن يقتل، والإخراج من الديار، فهو محرم عليكم إخراجهم،
{وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي}، يعني: الهوان
{في الحياة الدنيا}، فكان خزي أهل قريظة القتل والسبي، وخزي أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فكان هذا خزيا لهم وهوانا لهم،
{ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}، يعني: رءوس اليهود، يقول: هم أشد عذابا، يعني: رءوس اليهود من أهل ملتهم، لأنهم أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود،
ثم أوعدهم، فقال: {وما الله بغافل عما تعملون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يتجه في قوله: {ثُمّ أنْتُمْ} هَؤُلاَءِ وجهان:
أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك «يا» استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال: {يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا} وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم لازم لكم الوفاء لي به، {تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم بالإثم والعدوان. والتعاون: هو التظاهر وإنما قيل: للتعاون التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض، فهو تفاعل من الظهر، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.
والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم أنتم قومٌ تقتلون أنفسكم فيرجع إلى الخبر عن «أنتم»، وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم بهؤلاء، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس، ولو قيل: أنا هذا أجلس كان صحيحا جائزا، كذلك أنت ذاك تقوم.
وقد زعم بعض البصريين أن قوله «هؤلاء» في قوله:"ثُمّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ" تنبيه وتوكيد ل«أنتم»، وزعم أن «أنتم» وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا ب«هؤلاء» و«أولاء»، لأنها كناية عن المخاطبين.وكما قال جل ثناؤه: {حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ}.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية نحو اختلافهم فيمن عني بقوله: {وأنْتُمْ تَشْهَدونَ}. ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
{ثُمّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثْمِ والعُدْوَانِ} إلى أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم. فقال: أنّبهم الله على ذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج. والنضير وقريظة حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شِرْكٍ يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا، ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما، ولا حلالاً، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض: يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويُطِلّون ما أصابوا من الدماء وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حين أنّبهم بذلك: {أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من ذلك، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عَرضَ من عَرضَ الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة.
وقال آخرون: كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
وأما العدوان فهو الفعلان من التعدي، يقال منه: عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداءً، وذلك إذا جاوز حدّه ظلما وبغيا.
{وَإِنْ يَأتُوكُمْ أسارَى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفَتُؤمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}.
{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أسارَى تُفادُوهُمْ} اليهود يوبخهم بذلك، ويعرّفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها. فقال لهم: ثم أنتم بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم "تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ "يعني به يقتل بعضُكم بعضا، وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم تَفْدُونه ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقَتْلُكم إياهم وإخراجُكُموهم من ديارهم حرام عليكم وتَرْكُهم أسرى في أيدي عدوّكم، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوّهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم وتستجيزون قتلهم؟ وهم جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء، لأن الذي حرّمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوّهم، "أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْض الكِتاب" الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدّقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوّكم وتَكْفُرُونَ ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرّمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي.
وأما من قرأ: {تُفادُوهُمْ} فإنه أراد أنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدى منكم الذين أسروهم ففادوكم بهم أسراكم منهم.
وأما من قرأ ذلك: «تَفْدُوهُمْ» فإنه أراد أنكم يا معشر اليهود إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم. وهذه القراءة أعجب إليّ من الأولى، أعني: «أسرى تفدوهم» لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال فَدَى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
{وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ} فإن في قوله: وَهُوَ وجهين من التأويل أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره، كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرّم عليكم. ثم كرّر الإخراج الذي بعد وهو محرم عليكم تكريرا على «هو»، لما حال بين «الإخراج» و«هو» كلام. والتأويل الثاني: أن يكون عمادا لما كانت الواو التي مع «هو» تقتضي اسما يليها دون الفعل، فلما قدم الفعل قبل الاسم الذي تقتضيه الواو أن يليها أولِيَتْ «هو» لأنه اسم، كما تقول: أتيتك وهو قائم أبوك، بمعنى: وأبوك قائم...
{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدّنْيَا}.
{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} فليس لمن قتل منكم قتيلاً فكفر بقتله إياه بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة، وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى، جزاء يعني بالجزاء: الثواب وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه، "إِلاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدّنْيَا": والخِزْي: الذلّ والصغار، يقال منه: «خَزِي» الرجل يَخْزَى خِزْيا. "فِي الحياة الدنيا"، يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه.
فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ القاتل بمن قتل والقَوَد به قصاصا، والانتقام للمظلوم من الظالم.
وقال آخرون: بل ذلك هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ذلة لهم وصَغَارا.
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جَوّزوا به في الدنيا إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النّضِيرَ من ديارهم لأوّل الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسَبْي ذراريهم فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في الاَخرة عذاب عظيم.
{وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلى أشَدّ العَذَابِ}: ويوم تقوم الساعة يردّ من يفعل ذلك منكم بعد الخزي الذي يحلّ به في الدنيا جزاءً على معصية الله إلى أشدّ العذاب الذي أعدّ الله لأعدائه.
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: {وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدّونَ إلى أشَدّ العَذَابِ} من عذاب الدنيا. ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردّون إلى أشدّ معاني العذاب ولذلك أدخل فيه الألف واللام، لأنه عنى به جنس العذاب كله دون نوع منه.
{وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}: وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو مُحْصٍ لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الاَخرة ويخزيهم في الدنيا فيذلهم ويفضحهم.
تضمنت الآية وجوب فكّ الأسرى وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين؛ ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والإثم هو الفعل الذي يستحق عليه الذم،
والثاني: أنه في الإفراط في الظلم.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
قال السدي أخذ الله تعالى عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الاخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسرائهم. فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين تنزيلاً، لتغير الصفة منزلة وتغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وما الله بغافل} الآية،فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
اعلم أن التظاهر هو التعاون، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان...
[ثم إن] الآية تدل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة، فإن قيل: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم وأزال العوائق والموانع وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى، والجواب: أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر، بخلاف المعين للظالم على ظلمه فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق.
[و] الآية لا تدل على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر، بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم، فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة.
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} [البقرة: 85] وهو التوراة {وتكفرون ببعض} [البقرة: 85]!!قلت: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!. قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
"وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب" وهو الذي لا روح فيه ولا فرح...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قال ابن عطية: وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، يعني: أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء، فقد روي عن عمر بن الخطاب قال: إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمّة محمد، وبما يجري مجراه، وهذه الآية من أوعظ الآيات...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} الخ بيانٌ... وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمناً كأنهم قالوا: كيف نحن؟ فقيل: تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أشير إليه.ولعل بيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلاً مع الكفر ببعض
{وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ} وقرئ بالتاء، أوثرَ صيغةُ الجمع نظراً إلى المعنى (مَنْ) بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظراً إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع
{إلى أَشَدّ العذاب} لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي
وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلاً وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءَي النشأتين، وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر.
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكَرُ وتخصيصُ بيان الحرمةِ ههنا بالإخراج مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل، ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معاً، وذلك مختصٌّ بصورة الإخراجِ حيث لم يُنقلْ عنهم تدارُك القتلى بشيءٍ من دِيَةِ أو قِصاصٍ -هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق، وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على ما سبق بيانه في معنى قوله تعالى {وأحاطت به خطيئته} فالقرآن يصرح هنا وفي آيات كثيرة بأن من يقدم على الذنب لا تضطرب نفسه قبل إصابته، ولا يتألم ويندم بعد وقوعه فيرجع إلى الله تعالى تائبا، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله تعالى عنه وتحريمه له، فهو كافر به، لأن المؤمن بأن هذا شيء حرمه الله تعالى، المصدق بأنه من أسباب سخطه وموجبات عقوبته، ولا يمكن أن لا يكون لإيمان قلبه أثر في نفسه، فإن من الضروريات أن لكل اعتقاد أثرا في النفس، ولكل أثر في النفس تأثيرا في الأعمال. وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة الناطقة بأنه "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن؛ ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن". سمى الله الذنب ههنا كفرا لما تقدم وتوعد عليه بوعيد الكفر فقال {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} الخ أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين الذي يجمعهم، والشريعة التي هي مناط وحدتهم، ورباط جنسيتهم؛ بالخزي العاجل، والعذاب الآجل، وقد دل المعقول، وشهد الوجود، بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها؛ واعتدت حدود شريعتها، إلا وانتكث فتلها، وتفرق شملها، ونزل بها الذل والهوان، وهو الخزي المراد في القرآن، وهذه هي سنة الخليقة ذكرها ليعتبر بها من صرفته الغفلة عنها.
وأما العذاب الآجل الذي عبر عنه بقوله {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} فهو على كونه من عالم الغيب معقول المعنى، وهاد إلى حكمة عليا، ذلك أن النفوس البشرية إذا سحل مريرها، واختلت بفساد الأخلاق أمورها وكثرت في هذا العالم شرورها، حتى سلبت ما أعده الله تعالى لمن حافظوا على الحقيقة، واستقاموا على الطريقة، تكون جديرة بأن تسلب في الآخرة ما أعده الله تعالى للأرواح العالية، وما وعد به أصحاب النفوس الزاكية، فإن سعادة الدار الدنيا لم تكن أجرا على أعمال بدنية، لا تتعلق بصلاح النفس في خلق ولا نية، وإنما هي ثمرة تزكية النفس، التي يتوسل إليها بعمل الحس، فإذا كان هذا شأن سعادة الدنيا فكيف يكون نعيم الآخرة جزاء حركات جسدية، وهي الدار التي تغلب فيها الروحانية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
في قوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية، أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟. وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الاتباع والإعراض إيماناً وكفراً على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به،
وإنما وقع {تؤمنون} في حيز الإنكار تنبيهاً على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.
والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك، وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
تنبيه: هذه الآيات نزلت في بني إسرائيل، والخطاب لهم ابتداء، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لا تتداعى لبناته فيهوي، و النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته، فقال: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه) ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا، وهو امتداد لعصور قبلنا من العصر العباسي إلى اليوم، سفكنا دماءنا بأيدنا لهوى الملوك، وفساد الحكام، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لحية، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه، وصار بعضهم يغري أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء. ولقد كانت الأرض الإسلامية تلتهم قطعة قطعة، وفي المسلمين أقوياء لا يرون للدين حقا عليهم يوجب أن ينقذوا إخوانهم من المؤمنين، فقد كان النصارى يعذبون المسلمين حتى أفنوهم فيها، والأتراك من النظارة الذين ينظرون ولا يتحركون. وجاء العصر الأخير، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحارب المسلمين، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم للمسلم، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المقاتل العظيمة في المسلمين من رعيته، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم، وتذهب جماعات إسلامية، وقتا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه، ووجدنا من الملوك من يِؤيدونهم... اللهم لا حول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قولك الحكيم: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)}.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -تعرض أمة الإسلام لخزي الدنيا وعذاب الآخرة بتطبيقها بعض أحكام الشريعة وإهمالها البعض الآخر.