قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة } ظاهره خبر ، ومعناه نهي ، كقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب -53 ] { ومن حولهم من الأعراب } ، سكان البوادي : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار . { أن يتخلفوا عن رسول الله } ، إذا غزا . { ولا يرغبوا } ، أي : ولا أن يرغبوا ، { بأنفسهم عن نفسه } ، في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه . قال الحسن : لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب . { ذلك بأنهم لا يصيبهم } ، في سفرهم ، { ظمأ } ، عطش ، { ولا نصب } ، تعب ، { ولا مخمصة } ، مجاعة ، { في سبيل الله ولا يطئون موطئا } ، أرضا ، { يغيظ الكفار } ، وطؤهم إياه { ولا ينالون من عدو نيلاً } ، أي : لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة ، { إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد ابن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا يزيد بن أبي مريم ، ثنا عباية بن رفاعة قال : أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار " . واختلفوا في حكم هذه الآية ، قال قتادة : هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ، فأما غيره من الأئمة والولاة لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة . وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي ، وابن المبارك ، وابن جابر ، وعمر بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنها لأول هذه الأمة وآخرها . وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا ، فما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء ، فقال : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
{ 120 - 121 } { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يقول تعالى -حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين ، والأنصار ، ومن حولهم من الأعراب ، الذين أسلموا فحسن إسلامهم- : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لهم ذلك ، ولا يليق بأحوالهم .
{ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ } في بقائها وراحتها ، وسكونه { عَنْ نَفْسِهِ } الكريمة الزكية ، بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ، بنفسه ويقدمه عليها ، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به ، أن لا يتخلفوا عنه ، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي : المجاهدين في سبيل اللّه { لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ } أي : تعب ومشقة { وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : مجاعة .
{ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّار } من الخوض لديارهم ، والاستيلاء على أوطانهم ، { وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا } كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله ، وقيامهم بما عليهم من حقه وحق خلقه ، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم .
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول اللّه :
( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) .
وفي التعبير تأنيب خفي . فما يؤنب أحد يصاحب رسول اللّه - [ ص ] بأوجع من أن يقال عنه : إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللّه ، وهو معه ، وهو صاحبه !
وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل . فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة ؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة ؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله [ ص ] إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول اللّه - فضلاً على الأمر الصادر من اللّه ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه !
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . .
إنه على الظمأ جزاء ، وعلى النصب جزاء ، وعلى الجوع جزاء . وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء . وعلى كل نيل من العدو جزاء . يكتب به للمجاهد عمل صالح ، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم اللّه أجراً .
استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافّين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو . فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحَرَس ذاته .
والذين هم حول المدينة من الأعراب هم : مُزينة ، وأشجع ، وغِفار ، وجُهينة ، وأسلم .
وصيغة { ما كان لأهل المدينة } خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة ، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم ، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا .
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك ، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } الخ .
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب . وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو . وقال قتادة وجماعة : هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو مُحكم غير منسوخ . وبذلك جزم ابن بَطال من المالكية . قال زيد بن أسلم وجابر بن زيد : كان هذا حكماً عاماً في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] فصار وجوب الجهاد على الكفاية . وقال ابن عطية : هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخُروج . واختاره فخر الدين .
والتخلف : البقاء في المكان بعدَ الغير ممن كان معه فيه ، وقد تقدم عند قوله : { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة : 81 ] .
والرغبة تُعدّى بحرف ( في ) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه ، وتُعدى بحرف ( عن ) فتفيد معنى المجافاة للشيء ، كما تقدم في قوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } [ البقرة : 130 ] وهي هنا معداة ب ( عن ) . أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول ، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه مُلاَبسين لأنفسهم ، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قرباً ، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه .
والباء في قوله : { بأنفسهم } للملابسة وهي في موضع الحال . نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء الملابسة . وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبساً بها . وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز .
قال في « الكشاف » : « أمروا أن يُلَقُّوا أنفسَهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علماً بأنها أعَز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له » اه .
وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية .
والإشارة ب { ذلك } إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتاً لهم ، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله .
والباء في { بأنهم } للسببية . والظَّمأ : العطش ، والنصَب : التعب ، والمخمصة : الجوع . وتقدم في قوله : { فمن اضطر في مخمصة } في سورة العقود ( 3 ) .
والوطء : الدوس بالأرجل . والمَوْطىء : مصدر ميمي للوطء . والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو ، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش ، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعاراً لإذلال العدو وغلبته وإبادته ، كقول الحارث بن وَعْلة الذُهْلي من شعراء الحماسة :
ووطئتَنَا وَطئاً على حنق *** وَطْء المُقَيّد نابِتَ الهَرْم
والنيل : مصدر ( ينالون ) . يقال : نال منه إذا أصابه برزء . وبذلك لا يقدَّر له مفعول . وحرف ( من ) مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية . ورزءُ العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر ، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال . فجملة : كتب لهم به عمل صالح } في موضع الحال ، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد . والضمير في ( به ) عائد على ( نصَب ) وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر ، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفرداً على المتعاطفات ب ( أو ) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحد منه . ومعنى : { كتب لهم به عمل صالح } أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح ، أي جعَل الله كل عمل من تلك الأعمال عملاً صالحاً وإن لم يقصِد به عاملوه تقرباً إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها . وذلك بأن جعل لهم عليها ثواباً كما جعل للأعمال المقصود بها القربة ، كما ورد أن نوم الصائم عبادة .
وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله : { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } . ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } بوجه الإيجاز .