البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (120)

{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } : نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك ، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار .

ومناسبتها لما قبلها : أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله ، وأمر بكينونتهم مع الصادقين ، وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار ، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنّى توجه من الغزوات والمشاهد ، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة ، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه .

قال الزمخشري : بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه صلى الله عليه وسلم ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله تعالى وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلاً أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية .

قال الكرماني : هذا نفي معناه النهي ، وخصَّ هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه ، وأنه لا يخفى عليهم خروجه .

قال قتادة : كان هذا الإلزام خاصاً مع النبي صلى الله عليه وسلم وجواب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء .

وقال زيد بن أسلم : كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام ، واحتياج إلى اتصال الأيدي ، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } قال : وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام ، وأما إذا ألم العدوّ بجهة فيتعين على كل أحد القيام بذنبه ومكافحته ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل النفس دونه ، كأنه قيل : ذلك الوجوب للخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد الله لهم من الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم ، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام .

والظمأ العطش .

وقرأ عبيد بن عمير ظماء بالمد مثل : سفه سفاهاً ، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصاً في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولاً ، وثنى بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشىء عن العطش والسير ، وأتى ثالثاً بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة ، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر .

فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولاً فثانياً فثالثاً .

وموطئاً مفعل من وطىء ، فاحتمل أنْ يكون مكاناً ، واحتمل مصدراً .

والفاعل في يغيظ عائد على المصدر ، إما على موطىء إن كان مصدراً ، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً ، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار .

وأطلق موطئاً إذا كان مكاناً ليعم كل موطىء يغيظ وطؤه الكفار ، سواء كان من أمكنة الكفار ، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم .

والوطء يدخل فيه بالحوافر والإخفاف والأرجل .

وقرأ زيد بن علي : يغيظ بضم الياء .

والنيل مصدر ، فاحتمل أن يبقى على موضوعه ، واحتمل أن يراد به المنيل .

وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزيمة ، وليست الياء في نيل بدلاً من واو خلافاً لزاعم ذلك ، بل نال مادتان : إحداهما من ذوات الواو نلته أنوله نولاً ونوالاً من العطية ، ومنه التناول .

والأخرى : هذه من ذوات الياء ، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه .

وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء ، ثم ثنى بالنيل من العدو .

جاء العموم في الكفار بالألف واللام ، وفي من عدو لكونه في سياق النفي ، وبدىء أولاً بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه ، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام : « آخر وطأة وطئها الله بوج »

والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي : كتب في الصحائف ، أو في اللوح المحفوظ ، ليجازى عليه يوم القيامة .

ويحتمل أن يكون استعارة ، عبر عن الثبوت بالكتابة لأنّ من أراد أن يثبت شيئاً كتبه .

والجملة من كتب في موضع الحال ، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي : بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل .

وفي الحديث : « من أغرث قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار » وقال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة .