روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (120)

{ مَا كَانَ } أي ما صح ولا استقام { لأهل المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب } كمزينة . وجهينة . وأشجع . وغفار . وأسلم . وأضرا بهم { أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله } عند توجهه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصنها عنه بل يكابدون ما يكابده من الشدائد ، وأصله لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لأنفسهم المكاره ولا يكرهوها له عليه الصلاة والسلام بل عليهم أن يعكسوا القضية ، وإلى هذا يشير كلام الواحدي حيث قال : يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت عنه . وفي النهاية يقال : رغبت بفلان عن هذا الأمر أي كرهت له ذلك .

وجوز في { يَرْغَبُواْ } النصب بعطفه على { يَتَخَلَّفُواْ } المنصوب بأن واعادة { لا } لتذكير النفي وتأكيده وهو الظاهر والجزم على النهي وهو المراد من الكلام إلا أنه عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة ، وخص أهل المدينة بالذكر لقربهم منه عليه الصلاة والسلام وعلمهم بخروجه ، وظاهر الآية وجوب النفير إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو بنفسه .

وذكر بعضهم أنه استدل بها على أن الجهاد كان فرض عين في عهده عليه عليه الصلاة والسلام وبه قال ابن بطال : وعلله بأنهم بايعوه عليه عليه الصلاة والسلام فلا يجب النفير مع أحد من الخلفاء ما لم يلم العدو ولم يمكن دفعه بدونه ، وقدر بعضهم في الآية مضافاً إلى رسول أي أن يتخلفوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر ؛ وعليه يكون الحكم عاماً وفيه بحث .

وأخرج ابن جرير . وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام قليلاً فلما كثر وفشا قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } [ التوبة : 122 ] ، وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشياً عند نزول هذه السورة ، ولا يخفى ما في الآية من التعريض بالمتخلفين رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكترثين بما يكابد عليه الصلاة والسلام ، وقد كان تخلف جماعة عنه صلى الله عليه وسلم كما علمت لذلك ، وجاء أن أناساً من المسلمين تخلفوا ثم ان منهم من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبال بالشدائد كأبي خثيمة فقد روي «أنه رضي الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال : ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال عليه الصلاة والسلام : كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له »

{ ذلك } إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة { بِأَنَّهُمْ } أي بسبب أنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أي شيء من العطش . وقرىء بالمد والقصر { وَلاَ نَصَبٌ } ولا تعب ما { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } ولا مجاعة ما { فِى سَبِيلِ الله } في جهاد أعدائه أو في طاعته سبحانه مطلقاً { وَلاَ * يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار } أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء الدوس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج » والموطىء اسم مكان على الأشهر الأظهر ، وفاعل { يَغِيظُ } ضميره بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ ، ويحتمل أن يكون ضميراً عائداً إلى الوطء الذي في ضمنه ، وإذا جعل الموطىء مصدراً كالمورد فالأمر ظاهر { وَلاَ يَنَالُونَ } أي ولا يأخذون { مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } أي شيئاً من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر والفعل نال ينيل . وقيل : نال ينول فأصل نيلاً نولاً فأبدلت الواو ياء على غير القياس ، ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به لينالون أي لا ينالون شيئاً من الأشياء { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ } أي بالمذكور وهو جميع ما تقدم ولذا وحد الضمير ، ويجوز أن يكون عائداً على كل واحد من ذلك على البدل : قال النسفي . وحد الضمير لأنه لما تكررت { لا } صار كل واحد منها على البدل مفرداً بالذكر مقصوداً بالوعد ، ولذا قال فقهاؤنا : لو حلف لا يأكل خبزاً ولا لحماً حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحماً وخبزاً لم يحنث إلا بالجميع بينهما ، والجملة في محل نصب على الحال من { ظَمَأٌ } وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوباً لهم به { عَمَلٌ صَالِحٌ } أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف ، وقد يجعل كناية عن الثواب وأول به لأنه المقصود من كتابة الأعمال ، والتنوين للتفخيم ، والمراد أنهم يستحقون ذلك استحقاقاً لازماً بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه . واستدل بالآية على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم . ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب ، واستدل بها على ما نقل الجلال السيوطي أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } على إحسانهم ، والجملة في موضع التعليل للكتب ، والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة لهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللاشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم دخولاً أولياً .