معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

قوله تعالى :{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي : مهورهن ، { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية ، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له { وبنات عمك وبنات عماتك } يعني : نساء قريش ، { وبنات خالك وبنات خالاتك } يعني : نساء بني زهرة ، { اللاتي هاجرن معك } إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها . وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له ، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل . { وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين } أي . أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه . واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر ؟ فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك ، لقوله : { وامرأة مؤمنة } وأول بعضهم الهجرة في قوله : { اللاتي هاجرن معك } على الإسلام ، أي : أسلمن معك . فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة ، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } كالزيادة على الأربع ، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه . واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومجاهد ، وعطاء ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي . وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة . ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم : فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه بلفظ الهبة ، لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } . وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل : { إن أراد النبي أن يستنكحها } وكان اختصاصه صلى الله عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح . واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن ؟ . فقال عبد الله بن عباس ، ومجاهد : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله : { إن وهبت نفسه } على طريق الشرط والجزاء . وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية ، يقال لها : أم المساكين . وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث . وقال علي بن الحسين ، والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد . وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم . قوله عز وجل : { قد علمنا ما فرضنا عليهم } أي : أوجبنا على المؤمنين ، { في أزواجهم } من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ، { وما ملكت أيمانهم } أي : ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، { لكيلا يكون عليك حرج } وهذا يرجع إلى أول الآية أي : أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق . { وكان الله غفوراً رحيما* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

{ 50 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

يقول تعالى ، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه ، هو والمؤمنون ، وما ينفرد به ، ويختص : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي : أعطيتهن مهورهن ، من الزوجات ، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين ، [ فإن المؤمنين ]{[714]}  كذلك يباح لهم ما{[715]}  آتوهن أجورهن ، من الأزواج .

{ و } كذلك أحللنا لك { مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي : الإماء التي ملكت { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } من غنيمة الكفار من عبيدهم ، والأحرار من لهن زوج منهم ، ومن لا زوج لهن ، وهذا أيضا مشترك .

وكذلك من المشترك ، قوله { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ } شمل العم والعمة ، والخال والخالة ، القريبين والبعيدين ، وهذا حصر المحللات .

يؤخذ من مفهومه ، أن ما عداهن من الأقارب ، غير محلل ، كما تقدم في سورة النساء ، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء ، غير هؤلاء الأربع ، وما عداهن من الفروع مطلقًا ، والأصول مطلقًا ، وفروع الأب والأم ، وإن نزلوا ، وفروع من فوقهم لصلبه ، فإنه لا يباح .

وقوله { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قيد لحل هؤلاء للرسول ، كما هو الصواب من القولين ، في تفسير هذه الآية ، وأما غيره عليه الصلاة والسلام ، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة .

{ و } أحللنا لك { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } بمجرد هبتها نفسها .

{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي : هذا تحت الإرادة والرغبة ، { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : إباحة الموهبة{[716]}  وأما المؤمنون ، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة ، بمجرد هبتها نفسها لهم .

{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي : قد علمنا ما على المؤمنين ، وما يحل لهم ، وما لا يحل ، من الزوجات وملك اليمين . وقد علمناهم بذلك ، وبينا فرائضه .

فما في هذه الآية ، مما يخالف ذلك ، فإنه خاص لك ، لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ } إلى آخر الآية .

وقوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم ، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك ، { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم .

{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة ، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته ، وجوده وإحسانه ، ما اقتضته حكمته ، ووجدت منهم أسبابه .


[714]:- زيادة من: ب.
[715]:- كذا في أ، وفي ب: من.
[716]:- في ب: الموهوبة.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

49

بعد ذلك يبين الله لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ما يحل له من النساء ، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته ، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) . .

وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء ، تزوج بكل منهن لمعنى خاص . عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر . وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] تكريمهن ، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب ، إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج . وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها ، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى ، وعرفناه في قصتها . ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب . وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى ، توثيقا لعلاقته بالقبائل ، وتكريما لهما ، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة .

وكن قد أصبحن ( أمهات المؤمنين )ونلن شرف القرب من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير . فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء . وقد نظر الله إليهن ، فاستثنى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ذلك القيد ، وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته ، وجعلهن كلهن حلا له ، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا ، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى . فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن ، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه ، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة . . وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات :

يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ، وبنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين ، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ، لكي لا يكون عليك حرج ، وكان الله غفورا رحيما . ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك . ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ، والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما . لا يحل لك النساء من بعد ، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن - إلا ما ملكت يمينك - وكان الله على كل شيء رقيبا . .

ففي الآية يحل الله للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنواع النساء المذكورات فيها - ولو كن فوق الأربع - مما هو محرم على غيره . وهذه الأنواع هي : الأزواج اللواتي أمهرهن . وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء ، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن - إكراما للمهاجرات - وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي . إن أراد النبي نكاحها [ وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج ، والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين ] وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا . فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم . ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

قرأ الجمهور «اللاتي » بالتاء من فوق ، وقرأ الأعمش «اللايي » بياءين من تحت ، وذهب ابن زيد والضحاك في تفسير قوله { إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } إلى أن المعنى أن لله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه وأباح له ملك اليمين وبنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه ، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفاً وتنبيهاً منهن إذ قد تناولهن على تأويل ابن زيد قوله تعالى : { أزواجك التي آتيت أجورهن } ، وأباح له الواهبات خاصة له فهو على تأويل ابن زيد إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم ، لا سيما على ما ذكر الضحاك أن في مصحف ابن مسعود «وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك » ، ثم قال بعد هذه { ترجي من تشاء منهم } [ الأحزاب : 51 ] أي من هذه الأصناف كلها ، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى : { ولا أن تبدل بهن } [ الأحزاب : 52 ] فيجيء هذا الضمير مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك ، وتأول غير ابن زيد قوله { أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أن الإشارة إلى عائشة وحفصة ومن في عصمته ممن تزوجها بمهر ، وأن ملك اليمين بعد حلال له ، وأن الله تعالى أباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة له ، فيجيء الأمر على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء وكان ذلك يشق على نسائه ، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى سر نساؤه بذلك .

قال الفقيه الإمام القاضي : لأن ملك اليمين إنما يفعله في النادر من الأمر وبنات العم والعمات والخال والخالات يسير{[9542]} ، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، لا سيما وقد قيد ذلك شرط الهجرة معه والواهبة أيضاً من النساء قليل ، فلذلك سر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بانحصار الأمر ، ثم يجيء قوله تعالى : { ترجي من تشاء منهن } [ الأحزاب : 51 ] إشارة إلى من تقدم ذكره ، ثم يجيء قوله { ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] إشارة إلى أزواجه اللاتي تقدم النص عليهن بالتحليل فيأتي الكلام متسقاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الأول{[9543]} ، و «الأجور » المهور ، وقوله { مما أفاء الله عليك } أي رده إليك في الغنائم ، يريد وعلى أمتك لأنه فيء عليه ، و «ملك اليمين » أصله الفيء من الغنائم أو ما تناسل من سبي والشراء من الحربيين كالسباء ، ومباح السباءة هو من الحربيين ، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه ، ويسمى سبي الخبثة{[9544]} .

وقوله تعالى : { وبنات عمك } الآية ، يريد قرابته{[9545]} ، وروي عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية ، فحرمني عليه لأني لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء{[9546]} ، وقرأ جمهور الناس «إن وهبت » بكسر الألف هذا يقتضي استئناف الأمور ، إن وقع فهو حلال له ، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين .

فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد ، وقرأ الحسن البصري وأبيّ بن كعب والثقفي والشعبي ، «أن وهبت » بفتح الألف فهي إشارة إلى ما وقع من الهبات قبل نزول الآيات .

قال الفقيه الإمام القاضي : وكسر الألف يجري مع تأويل ابن زيد الذي قدمناه ، وفتح الألف يجري مع التأويل الآخر ، ومن قرأ بفتح الألف قال الإشارة إلى من وهب نفسه من النساء للنبي صلى الله عليه وسلم على الجملة ، قال ابن عباس فيما حكى الطبري هي ميمونة بنت الحارث ، وقال علي بن الحسين هي أم شريك ، وقال عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة أم المساكين ، وقال أيضاً عروة بن الزبير خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وامرأة مؤمنة وهبت » دون «إن » ، وقوله تعالى : { خالصة لك } أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل ، وأجمع الناس على أن ذلك لا يجوز ، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف أنهم قالوا : إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز .

قال الفقيه الإمام القاضي : فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة ، وإلا فالأفعال التي اشترطها هي أفعال النكاح بعينه .

قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر من لفظ أبيّ بن كعب أن معنى قوله { خالصة لك } يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع ، وقوله تعالى : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } يريد الولي والشاهدين والمهر والاقتصار على أربع قاله قتادة ومجاهد ، وقال أبيّ بن كعب هو مثنى وثلاث ورباع ، وقوله تعالى { لكي لا } أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح { لكي لا يكون عليك حرج } ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء ، ثم أنس تعالى الجميع من المؤمنين بغفرانه ورحمته .


[9542]:سقطت كلمة(يسير) من جميع الأصول، والتصويب عن(البحر المحيط) الذي نقل الكلام كاملا، فيكون المعنى: بنات العم والعمات والخال والخالات أمرهن يسير. على أنه يمكن أن نجعل " محصور عند نسائه" خبرا عن المبتدأ"بنات" مع ما في ذلك من قلق.
[9543]:ولأن قوله تعالى:{آتيت أجورهن} ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط.
[9544]:الخبثة: الحرام، ويقال: سبي لا خبثة فيه، أي: سبي من قوم يحل استرقاقهم، وسبي خبثة، أي: سبي من قوم لا يحل استرقاقهم لعهد تقدم لهم، او حرية في الأصل ثبتت لهم.(راجع كتب اللغة والمعاجم).
[9545]:قال ابن كثير:"هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباحت بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وبتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا شنيع فظيع".
[9546]:أخرجه ابن سعد، وابن راهويه، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي.(الدر المنثور)، وقال القرطبي:"خرجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه". قال ابن العربي:"وهو ضعيف جدا، ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها".