قوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ، نزلت في جد بن قيس المنافق ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال : يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ يعنى الروم ، تتخذ منهم سراري ووصفاء ، فقال جد : يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ، ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي . قال ابن عباس : اعتل جد بن قيس ولم تكن له علة إلا الإنفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أذنت لك فأنزل الله عز وجل : { ومنهم } يعنى من المنافقين { من يقول ائذن لي } في التخلف { ولا تفتني } ببنات الأصفر . قال قتادة : ولا تؤثمني : { ألا في الفتنة سقطوا } ، أي : في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر الله وأمر رسوله .
وقوله تعالى : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ، مطبقة بهم وجامعة لهم فيها .
{ 49 } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }
أي : ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف ، ويعتذر بعذر آخر عجيب ، فيقول : { ائْذَنْ لِي } في التخلف { وَلَا تَفْتِنِّي } في الخروج ، فإني إذا خرجت ، فرأيت نساء بين الأصفر لا أصبر عنهن ، كما قال ذلك { الجد بن قيس }
ومقصوده -قبحه اللّه- الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن ، فإن في خروجي فتنة وتعرضا للشر ، وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر .
قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصده ، [ فإن ] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة ، وهي معصية اللّه ومعصية رسوله ، والتجرؤ على الإثم الكبير ، والوزر العظيم ، وأما الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف ، وهي متوهمة ، مع أن هذا القائل قصده التخلف لا غير ، ولهذا توعدهم اللّه بقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ليس لهم عنها مفر ولا مناص ، ولا فكاك ، ولا خلاص .
ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة ؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول - [ ص ] - والمسلمين :
( ومنهم من يقول : ائذن لي ولا تفتني . ألا في الفتنة سقطوا ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ، ويتولوا وهم فرحون . قل : لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون . قل : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ? ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا . فتربصوا إنا معكم متربصون ) .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد اللّه بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا : قال رسول اللّه - [ ص ] - ذات يوم ، وهو في جهازه [ أي لغزوة تبوك ] للجد بن قيس أخي بني سلمة : " هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر ? " [ يعنى الروم ] فقال : يا رسول اللّه أو تأذن لي ولا تفتني ? فواللّه لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول اللّه - [ ص ] - وقال : " قد أذنت لك " ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية .
بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون . والرد عليهم :
( ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) . .
والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون ؛ وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم ، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون . كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً ، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير . وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون .
{ ومنهم من يقول ائذن لي } في القعود . { ولا تفتنّي } ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي ، وفيه أشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم يأذن ، أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي . أو في الفتنة بنساء الروم لما روي : أن جد بن قيس قال : قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ولكني أعينك بمالي فاتركني . { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه . { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } جامعة لهم يوم القيامة ، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها .
نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو ، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم ، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون : لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] ، وقيل : قال جماعة منهم : ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية . وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذنٍ ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : إنّ الجِدّ بن قيس قال : يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي ، فأذن لهم . ولعلّ كلَّ ذلك كان .
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة { ألا في الفتنة سقطوا } للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة . فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا ، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه ، أي في الفتنة العظيمة سقطوا ، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم { ولا تفتنى } كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه ، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق ، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم ، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس . وتقدّم بيان { الفتنة } قريباً .
والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة : شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها ، فهم كالساقط في هُوّة على حينِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب « على الخبير سقطتَ » .
وتقديم المجرور على عامله ، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة .
وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل .
وجملة { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } معترضة والواو اعتراضية ، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر . والكفر يستحقّ جهنّم .
وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها ، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات . والمراد بالكافرين : جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله : { إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] .
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله : { لمحيطة بالكافرين } إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال ، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال .