أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلاً ، فمر بأثر غيث ، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات ، فقال : عجبت من الغيث الأول ، فهذا أعجب منه ، فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا أبو محمد الرومي ، حدثنا أبو العباس السراج ، أنبأنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب الجراح بن الجراح ، حدثه عن ابن عباس ، قال : لكل شيء لباب ، ولباب القرآن الحواميم ، وقال ابن مسعود : إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن ، وقال سعد بن إبراهيم : كن آل الحواميم يسمين العرائس .
قوله تعالى :{ حم } قد سبق الكلام في حروف التهجي . قال السدي ، عن ابن عباس : حم اسم الله الأعظم ، وروى عكرمة عنه ، قال : آلر وحم ونون حروف الرحمن مقطعة ، وقال سعيد بن جبير ، وعطاء الخراساني : الحاء افتتاح أسمائه ، حكيم ، حميد ، حي حليم ، حنان ، والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد منان ، وقال الضحاك ، والكسائي : معناه قضى ما هو كائن ، كأنه أشارا إلى أن معناه حم بضم الحاء وتشديد الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر حم بكسر الحاء ، والباقون بفتحها .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
يخبر تعالى عن كتابه العظيم وبأنه صادر ومنزل من الله ، المألوه المعبود ، لكماله وانفراده بأفعاله .
سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل . قضية الإيمان والكفر . قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق ، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين . . وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم ، واستغفار الملائكة لهم ، واستجابة الله لدعائهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم .
وجو السورة كله - من ثم - كأنه جو معركة . وهي المعركة بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل . تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين !
ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين ، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة - وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر - وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله ، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة .
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص : ( غافر الذنب . وقابل التوب . شديد العقاب . ذي الطول . لا إله إلا هو . إليه المصير ) . . فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع ، مستقرة المقاطع ، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي !
كذلك نجد كلمة البأس . وبأس الله . وبأسنا . . مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة . وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها .
وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين . وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق ، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية .
ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك . .
من مصارع الغابرين : ( كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق . فأخذتهم . فكيف كان عقاب ? ) . . ( أو لم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض ، فأخذهم الله بذنوبهم ؛ وما كان لهم من الله من واق . ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا ، فأخذهم الله ، إنه قوي شديد العقاب ) . .
ومن مشاهد القيامة : ( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) . . ( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون . . )
ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته . وذلك هو الفوز العظيم ) . .
ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق : ( هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ثم لتكونوا شيوخاً . ومنكم من يتوفى من قبل ، ولتبلغوا أجلاً مسمى ، ولعلكم تعقلون . هو الذي يحيي ويميت . فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) . . ( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . ذلكم الله ربكم خالق كل شيء . لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ? ) . . ( الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم . ورزقكم من الطيبات . ذلكم الله ربكم . فتبارك الله رب العالمين ) .
وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها ، وتتناسق مع موضوعها وطابعها .
ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة .
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة : ( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم )تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة : ( غافر الذنب . وقابل التوب . شديد العقاب ذي الطول . لا إله إلا هو . إليه المصير ) . . ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله . وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال . ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مهما تقلبوا في الخير والمتاع . فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم ؛ وقد أخذهم الله أخذاً ، بعقاب يستحق العجب والإعجاب ! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك . . ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم ، ويتوجهون إليه بالعبادة ، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح . . وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم : ( لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ) . . وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار ، يقرون بذنبهم ، ويعترفون بربهم ، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار ، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار . . ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا . . ( هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً )ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه : ( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) . ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب . ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة : ( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء )وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون : ( لمن الملك اليوم ? لله الواحد القهار ) . . ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء . ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه ، كما يتوارى الطغاة والفجار . .
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم . مقدمة لعرض جانب من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وهامان وقارون . تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق . وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ولا تعرض إلا في هذه السورة . وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه . يدفع عن موسى ما هموا بقتله ؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر ، ثم في صراحة ووضوح في النهاية . ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة ؛ ويحذرهم يوم القيامة ، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر ؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف - عليه السلام - ورسالته . . ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة . فإذا هم هناك . وإذا هم يتحاجون في النار . وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا ، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص . ولات حين خلاص ! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق ، والتوجه إلى إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار .
فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر . ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله ، وهو أكبر من الناس جميعاً . لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله ؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً : ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء . قليلاً ما تتذكرون ) . ويذكرهم بمجيء الساعة ، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء . فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين . ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين . يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً . والأرض قراراً والسماء بناء . ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم . ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين . ويلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يبرأ من عبادتهم ، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم ، وأمره له بالإسلام لرب العالمين . ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة . . وهو الذي يحيي ويميت . ثم يعود فيعجب رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] من أمر الذين يجادلون في الله ؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف : ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ) . . وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً ! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم : ( ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ) . . وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى ، والثقة بأن وعد الله حق . سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه . فسيتم الوعد هناك . .
والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث . فبعد توجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين . ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) . . على أن في الكون آيات قائمة ، وبين أيديهم آيات قريبة ؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها . . هذه الأنعام المسخرة لهم . من سخرها ? . وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها ! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى ? ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين ، وهم يرون بأس الله فيؤمنون( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا . سنة الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون ) . . هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين ، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل .
( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول ، لا إله إلا هو ، إليه المصير ) . .
هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين : حا . ميم . منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر : عين . سين . قاف . وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور . وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها . وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها ، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها .