التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة غافر

في هذه السورة حملة شديدة على الكفار وحكاية لمواقفهم الجدلية والساخرة . وإنذار لهم بالخزي في الدنيا والآخرة . ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله تعالى ونواميسه وأفضاله وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنويه بالمؤمنين واختصاصهم باستغفار الملائكة وشفاعتهم دون المشركين . وإشارة تذكيرية إلى ما كان من موقف الكفار الأولين من رسل الله وعاقبتهم وندمهم وحسرتهم وعدم انتفاعهم بالإيمان بعد فوات الفرصة . وفيها فصل قصصي عن موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون بسبيل التذكير والعظة .

وقد سميت السورة باسم ( المؤمن ) أيضا اقتباسا من ذكر مؤمن آل فرعون ، وهي أولى سلسلة السور المعروفة بالحواميم . وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن الحواميم ديباج القرآن{[1]} ) . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم{[2]} . ولقد كثر في هذه السور ذكر القرآن على سبيل التنويه والتعظيم وفي معرض لجاج الكفار فيه وفي طرق وحيه ولعل ما روي متصل بذلك .

وفصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [ 56 – 57 ] مدنيتان والرواية تتحمل الشك والتوقف .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم ( 1 ) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( 2 ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ( 3 ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( 4 ) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ( 5 ) وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ( 6 ) } [ 1 – 6 ] .

بدأت السورة بحرفي الحاء والميم اللذين تعددت الأقوال في تخريجهما فقيل : إنهما من أسماء الله أو إنهما يرمزان إلى اسمي الله الرحمن الرحيم أو إنهما قسم أقسم الله به أو إنهما بمعنى القضاء من حم أو إنهما حروف مفردة كسائر الحروف المفردة الأخرى للتنبيه والاستدعاء ، وهو ما نرجحه كما رجحناه بالنسبة للمطالع المماثلة . وعبارة الآيات واضحة . وقد احتوت تنويها بالقرآن وتقريرا لما اتصف به الله تعالى – الذي أنزله – من صفات العزة والعلم والغفران للتائبين والشدة على المكابرين الذين هم وحدهم الذين يجادلون في آيات الله . وتحذيرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الانخداع بما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد وتطمينا له . فقد كذبت قبلهم أمم أخرى عديدة من لدن قوم نوح وما بعدهم وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق وطمسه ، وحاولوا أن يبطشوا برسلهم فأخذهم الله أخذا قويا ما تزال آثاره قائمة وأخباره دائرة يراها الناس ويسمعونها ، ولقد حقت كلمته بالإضافة إلى أخذه الشديد في الدنيا بأن الكافرين هم أصحاب النار في الآخرة .

والآيات كما هو المتبادر مقدمة نافدة في صدد إنذار الكفار العرب في الدنيا والآخرة ، وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيته .

ويلفت النظر إلى ما بين هذه المقدمة وبين آيات السورة السابقة الأخيرة من تساوق تأكيدي في صدد غفران الذنوب وقبول التوبة وتقرير كون كلمة العذاب إنما حقت على الكافرين المكابرين على الله المكذبين بآياته مما يمكن أن يكون قرينة ما على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الزمر .

تعليق على جملة

{ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا }

وجملة : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } في الآية الرابعة تضمنت تقرير كون الذين يجادلون في آيات الله ، وينكرونها هم الذين تعمدوا العناد وبيتوا الكفر والمكابرة فقط . حيث انطوى في ذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى ، وانطوى فيه تبعا لذلك تحميل الكافرين مسؤولية موقفهم الذي يقفونه عن عمد وباطل . وقد انطوى في هذا وذاك في الوقت نفسه تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعنيف قارع للكفار ، وكل هذا مما استهدفته الآيات . وفي السور السابقة آيات وعبارات انطوى فيها ذلك . مما يصح أن يعد من المبادئ القرآنية المحكمة .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.