وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . قال : إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها ، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة .
قوله تعالى : { لها ما كسبت } . أي للنفس ما عملت من الخير ، لها أجره وثوابه .
قوله تعالى : { وعليها ما اكتسبت } . من الشر وعليها وزره .
قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } . أي لا تعاقبنا .
قوله تعالى : { إن نسينا } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو ، قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به ، أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) .
قوله تعالى : { أو أخطأنا } . قيل معناه القصد والعمد ، يقال : أخطأ فلان إذا تعمد ، قال الله تعالى ( إن قتلهم كان خطأً كبيراً ) قال عطاء : { إن نسينا أو أخطأنا } يعني : أن جهلنا أو تعمدنا ، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو ، لأن ما كان عمداً من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله ، والخطأ معفو عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } . أي عهداً ثقيلاً وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه .
قوله تعالى : { كما حملته على الذين من قبلنا } . يعني اليهود ، فلم يقوموا به فعذبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة يدل عليه قوله تعالى ( وأخذتم على ذلكم إصري ) أي عهدي ، وقيل معناه : لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال والأغلال ، وهذا يعني قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة يدل عليه قوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وقيل : الإصر ذنب لا توبة له ، معناه أعصمنا من مثله ، والأصل في العقل والإحكام .
قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه ، وقيل هو حديث النفس والوسوسة . حكي عن مكحول أنه قال : هو الغلمة ، قيل : الغلمة : شدة الشهوة ، وعن إبراهيم قال : هو الحب ، وعن محمد بن عبد الوهاب قال : العشق ، وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء ، وقيل : هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها .
قوله تعالى : { واعف عنا } . أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا .
قوله تعالى : { واغفر لنا } . استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا .
قوله تعالى : { وارحمنا } . فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك .
قوله تعالى : { أنت مولانا } . ناصرنا وحافظنا وولينا .
قوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غفرانك ربنا ) قال الله تعالى قد غفرت لكم وفي قوله ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : لا أوأخذكم ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ) قال : لا أحمل عليكم إصراً { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : لا أحملكم { واعف عنا } إلى آخره قال قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين . وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به ، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي : أمرا تسعه طاقتها ، ولا يكلفها ويشق عليها ، كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس ، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان ، وحمية عن الضرر ، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا ، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل ، إما بإسقاطه عن المكلف ، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم ، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير ، وعليها ما اكتسبت من الشر ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره ، وفي الإتيان ب " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى ب " اكتسب " في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه ، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله ، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان ، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا ، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال : قد فعلت . إجابة لهذا الدعاء ، فقال { ربَّنا لا تؤاخذْنا إن نَّسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما : أن النسيان : ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا ، والخطأ : أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله : فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا ، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب ، أو نجس ، أو قد نسي نجاسة على بدنه ، أو تكلم في الصلاة ناسيا ، أو فعل مفطرا ناسيا ، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا ، فإنه معفو عنه ، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا ، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم ، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف ، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر . { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي : تكاليف مشقة { كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور ، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور { أنت مولانا } أي : ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات ، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها ، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين ، الذين كفروا بك وبرسلك ، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك ، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان ، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر ، والحمد لله رب العالمين . تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم .
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا ، لا حيوانا ولا حجرا ، ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو ، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدرا ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته ؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .
ثم الشطر الثاني من هذا التصور :
( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه ؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم ؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله [ ص ] : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .
( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) . .
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم( السبت )أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم ، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) . . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول [ ص ]( ونيسرك لليسرى ) .
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !
إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .
ودعاء المؤمنون : ( ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .
( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) . .
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :
( واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ) .
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله [ ص ] : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .
وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي إراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :
( أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم عن جابر قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تُعْطه .
فسأل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر الآية
وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : لا يكلف أحدًا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ، في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } أي : هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك{[4712]} الشخص دفعه ، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان .
وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي : من خير ، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي : من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ، ثم قال{[4713]} تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله ، وقد تكفل لهم بالإجابة ، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [ نَسِينَا ]{[4714]} } أي : إن تركنا فرضًا على جهة النسيان ، أو فعلنا حرامًا كذلك ، { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : الصوابَ في العمل ، جهلا منا بوجهه الشرعي .
وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : " قال الله : نعم " ولحديث{[4715]} ابن عباس قال الله : " قد فعلت " .
وروى ابن ماجة في سننه ، وابن حبان في صحيحه{[4716]} من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء - قال ابن ماجة في روايته : عن ابن عباس . وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء ، عن عبيد بن عُمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع{[4717]} عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله{[4718]} أحمد وأبو حاتم{[4719]} والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه " قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }{[4720]} .
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي : لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين الحنيف السهل السمح .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : نعم " .
وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : قد فعلت " . وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحَنيفيَّة السمحة " {[4721]} .
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به .
وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : الغرْبة والغلمة ، رواه{[4722]} ابن أبي حاتم ، " قال الله : نعم " وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، { وَارْحَمْنَا } أي : فيما يُسْتَقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره . وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم . وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : { أَنْتَ مَوْلانَا } أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التّكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك{[4723]} { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم . وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن عباس : " قال الله : قد فعلت " .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، أن معاذًا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة{[4724]} { فانصرنا على القوم الكافرين } قال : آمين{[4725]} .
ورواه وَكِيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين{[4726]} .
الأظهر أنّه من كلام الله تعالى ، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين ، فيكون اعتراضاً بين الجمل المحكية بالقول ، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان ، والتسليم ، والطاعة ، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة ، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة ، أو التي ألهموها : وهي { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ } إلى قوله { ما لا طاقة لنا به } قبل أن يحكي دعواتهم تلك .
ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين ، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع ، ممَّا أبدى وما أخفى ، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً ، أو يعقد عليه القلب ، ويطمئنّ به ، إلاّ أنّ قوله : { لها ما كسبت } إلخ يبعد هذا ؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك .
فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وهذا مروي في « صحيح مسلم » عن أبي هريرة وابن عباس{[203]} أنّه قال : لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا : لا نطيقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا : " سمعنا وأطعنا وسلمنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين ، والمراد البيانُ والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس : أنّ هذه الآيات متتابعة النظم ، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة ، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً .
والوسع في القراءة بضم الواو ، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول . والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع .
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم ( نفساً ) في سياق النفي ، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، هذا حكم عام في الشرائع كلّها .
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة « المشقّةُ تجلب التيسير » . وكانت المشقة مظنّة الرخصة ، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى « مقاصد الشريعة » وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتِ للعشرة من المشركين ، في أول الإسلام ، وقلّة المسلمين .
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحَال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنَّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً ، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء ، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة ، وترتّب الإثم لأنّ لله تعالى إثابَة العاصي ، وتعذيبَ المطيع ، فبالأوْلى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل ، أو متعذّر ، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروحِ في الصورة وما هو بنافخ ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل . ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة ، ولأنّهما خبرَا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين . وقالت المعتزلة : يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه ، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال ، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلاّ لصار عبثاً وهو مستحيل على الله ، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي .
واستدلّوا بهذه الآية ، وبالآيات الدالة على أصولِها : مثل { ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49 ] { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] { قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] إلخ .
والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد ، فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد ، وقال بالكسب ، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدورِ دون أن تكون قدرته مؤثرّة فيه ، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، فالتزم الأشعري ذلك ، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك .
ثم اختلف المجوّزون : هل هو واقع ، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية ، وقال إمام الحرمين في « البرهان » : « والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق ، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف ، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها ، وإنّما يُقْدِره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات » وما ألزمُه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل ؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة ، المعبّر عنها بالكسب ، للفرق البيِّن بين الأحوال الظاهرة ، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر ، وكذلك لا معنى لإدخال ما عَلِمَ الله عدمَ وقوعه ، كأمر أبي جهل بالإيمان مع عِلم الله بأنّه لا يؤمن ، في مسألة التكليف بما لا يطاق ، أو بالمحال ؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد .
وأورد عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله سيصلى ناراً ذات لهب } [ المسد : 1 ، 3 ] فقد يقال : إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطَب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك ، وبذلك نسلم من أن نقول : إنّه خارج عن الدعوة ، ومن أن نقول : إنّه مخاطب بعد نزول الآية .
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة ، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقُدَرِهم ، دون ما هو بحسب سرّ القَدَر ، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة ، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية .
وقوله : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } حال من « نَفَسا » لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس : وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها . وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة « اللاّم » مرة وبواسطة ( علَى ) أخرى . وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب ؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها ، وإنّما عبّر هنا مرة بكَسَبت وأخرى باكتسبت تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها ، كما فعل ذو الرمة في قوله :
ومُطعَمِ الصيد هَبَّال لبُغيته *** ألفَى أباه بذاك الكَسْب مُكتسِبا{[204]}
* فحملت بَرّةَ واحتَمَلْتَ فجارِ *
وابتدُىء أولاً بالمشهور الكثير ، ثم أعيد بمطاوعه ، وقد تَكون ، في اختيار الفعل الذي أصله دَالٌ على المطاوعة ، إشارةٌ إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان ، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبْغيض من الله للناس في الذنوب . واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات ، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة ، ووقع في « الكشاف » أنْ فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال ، وكان الشرّ مشتهًى للنفس ، فهي تَجِدُّ تحصيله ، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب .
والمراد بما اكتسبت الشرور ، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير ، والاكتساب هو اجتناء الشر ، وهو خلاف التحقيق ؛ ففي القرآن { ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها } [ الأنعام : 164 ] ثم قيل للذين ظلموا { ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون } [ يونس : 52 ] وقد قيل : إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي فيه تكلّف . لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير .
وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتساباً ؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة .
ولم يصف العباد بالقدرة ، ولا أسند إليهم فعل قَدَر وَإنّما أسند إليهم الكسب ، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد ، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد ، وقد قيل : إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار ، رأس الفرقة النجارية من الجبرية ، كان معاصِراً للنظام في القرن الثالث ، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي : « أدقُّ مِن كَسْب الأشعريّ » .
وتعريف الكسب ، عند الأشعري : هو حالة للعبد يقارنها خَلْقُ الله فعلاً متعلَّقاً بها . وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تَحصلُ بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله . وللكسب تعاريف أخر .
وحاصل معنى الكسب ، وما دعا إلى إثباته : هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد ، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات ، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وأنّه خالق كلّ شيء ، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه ، فوجب إعمال هذا العموم . ثم إنّه لما لم يجز أن يُدّعى كون العبد مجبوراً على أفعاله ، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية ، كحركة المرتعش ، والأفعالِ الاختيارية ، كحركة الماشي والقاتِل ، ورعيا لحقيّة التكاليف الشرعية للعباد لئلاّ يكون التكليف عبثاً ، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلاّ يكون باطلاً ، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكِّنه من فعل ما يريد فعله ، وتركِ ما يريد تركه ، وهي ميله إلى الفعل أو الترك ، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة ، وسمّاها كسباً . وقال : إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها .
وتقديم المجروريْن في الآية : لقصد الاختصاص ، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها ، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية : من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله .
وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب ، إلاّ إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره ؛ ففي الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له " وفي الحديث : " ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل " وفي الحديث : " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيِّئَة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " .
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيّاً من قول المؤمنين : الذين قالوا : { سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] ، بأن اتّبعوا القبول والرضا ، فتوجّهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى . واختيارُ حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها . ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم : بأن يقولوا هذا الدعاء ، مثل ما لقّنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير ، قولوا : { ربنا لا تؤاخذنا } إلى آخر السورة ؛ إنّ الله بعد أن قرر لهم أنّه لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها ، لقّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع . والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] .
والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة ، كقوله : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ .
والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى .
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وفي رواية : " وضع " رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته ، وقد حسّنه النووي ، وأنكره أحمد ، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع . فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة « لا تؤاخذنا » أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ : نسيانٍ أو خطأ ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله ، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في « الكشاف » .
وقوله : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين ، بإعادة النداء ، مع أنّه مستغنى عنه : لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل . والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس ، وهو مناسب لاستعارة الإصر .
وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط ، وتعقد به الأشياء ، ويقال له : الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به ، ومنه قوله في آل عمران ( 81 ) : { قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله ، والامتثالُ فيه ، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله ، في سورة الأعراف ( 157 ) :
{ ويضع عنهم إصرهم } وهو المقصود هنا ، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف ، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله : { ولا تحمِلْ } ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبّه به وعن ابن عباس : { ولا تحمل علينا إصراً } عهداً لا نفي به ، ونعذّب بتركه ونقضه » .
وقوله : { كما حملته على الذين من قبلنا } صفة ل { إصراً } أي عهداً من الدين ، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة ، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة ، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك ، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات ، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم ، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم " ويضع عنهم إصرهم " .
وقوله : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات . والتضعيف فيه للتعدية . وقيل : هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة ، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم . والطاقة في الأصل الإطاقة خفّفت بحذف الهمزة كما قالوا : جابة وإجابة وطاعة وإطاعة .
والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله : { ربنا لا تؤاخذنا } .
وقوله : { واعف عنا واغفر لنا } لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا ، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات ، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل ، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله : { ربنا } فروع لهذه الدعوات الثلاث ، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى ؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة ، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص ، كان كأنّه دعاء واحد .
وقوله : { أنت مولانا } فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية : أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا ، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك ، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية .
وقوله : { فانصرنا على القوم الكافرين } جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى ، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه ، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي :
رأيتُ مَوَالِيّ الألَى يخذلونني *** على حدثَانِ الدّهْرِ إذْ يَتَقلّب
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر ، لأنّهم جعلوه مرتّباً على وصف محقّق ، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين ، قال تعالى : { اللَّه ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] وفي حديث يوم أحد لَمَّا قال أبو سفيان : « لَنا العُزّى ولا عُزَّى لكم » قال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه " الله مولانا ولا مولَى لكم " . ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة ؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم ، وسلموا من الفتنة ، ودخل الناس فيه أفواجاً .
وفي « الصحيح » ، عن أبي مسعود الأنصاري البدري : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه " وهما من قوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إلى آخر السورة . قيل معناه كفتاه عن قيام الليل ، فيكون معنى من قرأ من صلَى بهما ، وقيل معناه كفتاه بركة وتعوّذا من الشياطين والمضارّ ، ولعلّ كلا الاحتمالين مراد .