فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

284

{ وسعها } ما تقدر عليه . { إصرا } قيدا وثقلا وعهدا .

{ مولانا } مطاعنا ومصلحنا وولينا .

{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } بشر المولى سبحانه بأنه شرع لنا شرعة سمحة يريد بها اليسر لأهل الدين والرحمة للعالمين يقول ابن عطية : نص الله تعالى على أنه لم يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته ، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وهو كقوله تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة }{[852]} وقوله جل ثناؤه { . . كل امرئ بما كسب رهين }{[853]} ، وكذا القول الرباني الحكيم { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }{[854]} ، فلكل عبد ثواب ما عمل من خير وعليه عقاب ما ارتكب من إثم وزور ، { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } كأن في الكلام مقدارا أي قولوا ربنا لا تؤاخذنا ، يعلمنا مولانا كيف نتضرع إليه قال ابن زيد : إن نسينا شيئا مما افترضته علينا أو أخطأنا شيئا مما حرمته علينا ، ويقول ابن جرير : لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله على غير قصد منا إلى معصيتك ولكن على جهالة منا بخطأ . . . إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطئوا فليسألوه أن يؤاخذكم بذلك ؟ قيل إن النسيان على وجهين أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط والآخر على وجه عجز الإنسان عن حفظ ما استحفظ ووكل به وضعف عقله عن احتماله ، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط فهو ترك منه بفعله فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة ، فقال في ذلك : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما }{[855]} ، وهو النسيان الذي قال جل ثناؤه { . . فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا . . }{[856]} ، فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه . . . وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته فإن ذلك من العبد غير معصية وهو به غير آثم . . وكذلك للخطأ وجهان . . . ؛

{ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } . . . يعني بالإصر العهد . . عنى بقوله : { ولا تحمل علينا إصرا } ولا تحمل علينا فنعجز عن القيام به ولا نستطيع { كما حملته على الذين من قبلنا } يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها فلم يقوموا بها فعجلوا بالعقوبة . . . عن قتادة يقول : كما غلظ على من قبلنا . . . { ربنا ولا تحملنا ما طاقة لنا به } . . عن الضحاك . . لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق . . وعن السدي : . . التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم . . { واعف عنا واغفر لنا } . . قال ابن زيد : . . واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها . .

{ وارحمنا } لا ننال العمل بما أمرتنا به ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك ؛ قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك . . .

{ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } قال قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله { غفرانك ربنا } قال الله عز وجل : قد غفرت لكم فلما قرأ { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله عز وجل لا أحملكم ، فلما قرأ{ واغفر لنا } قال الله تبارك وتعالى : قد غفرت لكم ، فلما قرأ و{ وارحمنا } قال الله عز وجل : قد نصرتكم عليهم . 1ه .

/خ286

ختام السورة:

وفي فضل السورة وردت أحاديث كثيرة ففي صحيح مسلم عن أبي أمامةَ الباهلي رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرةَ وآلَ عمرانَ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أوكأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابها اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة ) ؛ قال معاوية بن سلام : بلغني أن البطلة السحرة وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ) وفي هذه السورة المباركة آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي وقد أوردنا في تفسير الصحاح الواردة في فضلها . فمن أراد أن يشفع فيه كتاب الله يوم العرض على مولاه فليقرأ متدبرا وليصحب القرآن العظيم مستجيبا لهداه وبعروته الوثقى مستمسكا ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن آيات الذكر الحكيم بدءا بآيات سورة البقرة إنما تحاج عن المتبعين للكتاب المبين ( يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران . . تحاجان عن صاحبهما ) أخرجه مسلم .


[852]:من سورة المدثر الآية 48.
[853]:من سورة الطور من الآية 21.
[854]:من سورة الزلزلة الآيتان 7-8.
[855]:سورة طه الآية 115.
[856]:سورة الأعراف من الآية 51.