قوله : ( اِلاَّ وُسْعَهَا ) [ 285 ] : أي طاقتها فيما تعبدها( {[9238]} ) به .
فهذا توسيع( {[9239]} ) ورخصة من الله( {[9240]} ) وهوثل قوله : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )( {[9241]} ) ، ومثل : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ )( {[9242]} ) ، ومثل : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )( {[9243]} ) .
قوله : ( إِن نَّسِينَا ) [ 285 ] . أي : نسينا فرضاً فرضته علينا ، فلم نفعله( {[9244]} ) .
أي : في فعل شيء نهيتنا( {[9245]} ) عنه ، ففعلناه على غير قصد إلى معصيتك( {[9246]} ) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم( {[9247]} ) : " تَجَاوَزَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ نِسْيَانِهَا وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا " ( {[9248]} ) .
وكان النحاس يقول : النسيان هنا الترك لأن الله تعالى لا يوصف بأن يعاقب على النسيان فيسأل في العفو عنه ، لأنه( {[9249]} ) ليس من تعمد العبد . إنما هي آفة تدخل عليه . وهو قول( {[9250]} ) قطرب .
أي : عهداً . قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم( {[9251]} ) .
وقال غيره : " لا تحمل علينا ذنوبنا ، فتعاقبنا بمسخ أو عذاب كما كان من قبلنا( {[9252]} ) " .
وقال الضحاك : في قوله : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) ، قال : " إذا دعي الناس ليوم الحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم ، فيقول : " إِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنِّي شَيْءٌ وَإِنَّ كُتَّابِي مِنَ المَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُونُوا يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا تُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ ، وَإِنِّي لاَ أُحَاسِبْكُمْ بِهِ اليَوْمَ " .
قال الضحاك : هذا قول ابن عباس( {[9253]} ) .
وعن ابن عباس أن الله جل ذكره نسخ هذه الآية بقوله : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا ) ، قال : لما نزلت : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ ) الآية ، وجدوا في أنفسهم منها وجداً شديداً( {[9254]} ) فنسخ الله ذلك وأجارهم . ( {[9255]} ) منها ، ثم علمهم أن يقولوا( {[9256]} ) إذا عملوا سيئة : ( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوَاَخْطَأْنَا ) إلى قوله : ( مِن قَبْلِنَا ) .
قال : " وكان الذين( {[9257]} ) من قبلهم ، إذا عملوا سيئة حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم ، وذلك قوله : ( فَبِظُلْمِ مِّنَ الذِينَ هَادُوا/ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ( {[9258]} ) اُحِلَّتْ لَهُمْ )( {[9259]} ) .
وقال للمؤمنين : قولوا : ( رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) إلى قوله : ( الكَافِرِينَ ) .
قال : " فهذا شيء أعطاه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم( {[9260]} ) يُعْطِهِ( {[9261]} ) أحداً ممن كان قبلهم من الأمم ألا يؤاخذوا( {[9262]} ) بنسيان( {[9263]} ) ولا خطأ غيرَهم " . وقال الحسن : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَجَاوَزَ اللهُ لاِبْنِ آدَمَ عَمَّا نَسِيَ وَعَمَّا أَخْطَأَ( {[9264]} ) وعَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَعَمَّا غُلِبَ عَلَيْهِ " ( {[9265]} ) .
وروى عبد الله بن أبي أوفى( {[9266]} ) أن النبي عليه السلام( {[9267]} ) قال : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ( {[9268]} ) بِهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ " ( {[9269]} ) .
وروي أن ابن عمر قرأ هذه الآية وبكى بكاءً شديداً ، ثم قال : " والله لئن آخذنا اللهُ بهذا لنهلكن " ، فبلغ ذلك ابن عباس ، فقال : " يرحم( {[9270]} ) الله أبا عبد الرحمن ؛ لقد( {[9271]} ) وجد المسلمون منها مثل ما وجد حتى أنزل الله بعدها : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ )( {[9272]} ) .
قال ابن جبير : " لما نزل : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ )( {[9273]} ) ، شق ذلك على الناس حتى نزلت بعدها : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) " ( {[9274]} ) .
قال مجاهد : " معنى( {[9275]} ) : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ ) : يعني من الشك واليقين " ( {[9276]} ) .
قال ابن جبير : " نسخت ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا ) قوله : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ ) أو تخفوه( {[9277]} ) الآية " ( {[9278]} ) . وقاله إبراهيم/( {[9279]} ) والشعبي( {[9280]} ) .
قال الضحاك : " لما نزلت ( امَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ )( {[9281]} ) ، إلى آخر/ السورة ، قال الله جل ذكره : " قَدْ فَعَلْتُ " .
وروي عن الحسن والضحاك –أو عن أحدهما- أنه قال في قوله تعالى : ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) : " معناه : سمعنا القرآن( {[9282]} ) أنه جاء من عند الله وأطعنا " . يقول : " أقروا على أنفسهم بالطاعة لله فيما أمرهم به ونهاهم عنه " .
وروى حذيفة أن النبي عليه السلام( {[9283]} ) قال : " أُوتيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ [ آخِرٍ سُورَةِ ]( {[9284]} ) البَقَرَةِ مِنْ بَيْتٍ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ ، لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْهُ قَبْلِي ، وَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ( {[9285]} ) مِنْهُ بعْدِي " ( {[9286]} ) .
وروى النعمان بن بشير( {[9287]} ) أن النبي عليه السلام( {[9288]} ) قال : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَاباً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ( {[9289]} ) عَامٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنْهُ آيَتَيْنْ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلاَ تُقْرَآنِ فِي دَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ( {[9290]} ) " ( {[9291]} ) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه( {[9292]} ) : " إن( {[9293]} ) خواتم سورة البقرة وفواتحها من كنز تحت العرش " ( {[9294]} ) .
وروي أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " ( {[9295]} ) يعني نفسه .
وذكر ابن( {[9296]} ) الأنباري في هذه الآية ثلاثة أقوال : قال : إن( {[9297]} ) الله تعالى يعاقب الذي يحدث/ نفسه بالمعصية ، ولا يعملها ، بِهَمٍّ أو حزن( {[9298]} ) وبشبهه ، ثم لا يحاسبه على ذلك يوم القيامة وهو معنى قول عائشة رضي الله عنها( {[9299]} ) .
/ والقول الثاني : إن الله يُقبل على العبد يوم القيامة فيخبره بما حدث به نفسه من خير وشر ، ثم لا يجزيه بما لم يظهر منه من عمل ، وهو معنى قول الضحاك .
والقول الثالث : إنه منسوخ بقوله : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا )( {[9300]} ) . فالوسوسة وحديث النفس لا يملك الإنسان صرفه ، ولا قدرة له على دفعه .
قوله : ( لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوَاَخْطَأْنَا )[ 285 ] .
روى مالك عن نافع عن ابن( {[9301]} ) عمر أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم( {[9302]} ) : / " أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَقَالَ لِي : يَا مُحَمَّدُ ، اللَّهُ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ : إِنِّي قَدْ تَجَاوَزْتُ لَكَ عَنْ أُمَّتِكَ الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ( {[9303]} ) .
وقال( {[9304]} ) ابن زيد : " ( وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً ) ، أي ذنباً لا توبة منه ولا كفارة فيه " ( {[9305]} ) .
وقال ابن وهب عن مالك : " الإصر : الأمر الغليظ " ( {[9306]} ) .
وقال أهل اللغة : " الإصر : الثقل " ( {[9307]} ) .
وقيل : معناه( {[9308]} ) : لا تحمل علينا فرضاً يصعب علينا أداؤه ، كما حملت على بني إسرائيل بعضهم يقتل( {[9309]} ) بعضاً . وشبهه( {[9310]} ) .
قوله : ( وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ )[ 285 ] : أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق .
وقال قتادة : معناه : لا تشدد علينا كما [ شددت على ]( {[9311]} ) من كان قبلنا( {[9312]} ) .
ومعنى : ( مَالاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) أي : ما لا نستطيعه إلا بمشقة شديدة وكلفة عظيمة . فإنما سألوا دفع ما في طاقتهم لو كلفوه ، ولكن له مشقة وكلفة . ولم يسألوا دفع ما لا يطيقونه لو كلفوه ، لأن ذلك لا يوصف به الله عز وجل فيجوز أن يسألوا في دفعه عنهم( {[9313]} ) .
قوله : ( وَاعْفُ عَنَّا ) [ 285 ] : أي امح ذنوبنا . والعافي الدارس( {[9314]} ) .
( وَاغْفِرْ لَنَا ) [ 285 ] : أي حط عنا( {[9315]} ) ذنوبنا .
( أَنْتَ مَوْلاَنَا ) [ 285 ] : أي( {[9316]} ) ولينا .
وروت أم سلمة أن النبي عليه السلام قال : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لَكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ : عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ وَالاسْتِكْرَاهِ " ( {[9317]} ) .
وعن أبي هريرة( {[9318]} ) أن النبي عليه السلام( {[9319]} ) قال : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ " ( {[9320]} ) .