{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . ظاهر الآية قضاء الحوائج ، وفيها إضمار السؤال والحاجة ، كأنّه قال لهم : تكلّفنا إلاّ وسعنا ، فأجاب الله فقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
والوسع : اسم لما يسع الإنسان وما [ يشقّ ] عليه . وقيل : [ يشق ] ويجهد .
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة الشامي : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . بفتح الواو وكسر السين على الفعل ، يريد : إلاّ وسعها أمره ، أو أراد إلاّ ما وسعها فحذف ( ما ) .
واختلفوا في تأويله ، فقال ابن عطاء والسدي وأكثر المفسّرين : أراد به حديث النفس ، وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } . جاء المؤمنون [ عامة ] وقالوا : يارسول الله هذا لنتوب من عمل الجوارح ، فكيف نتوب من الوسوسة وكيف نمتنع من حديث النفس ؟
فأنزل الله : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . أي طاقتها ، وكان حديث النفس مما لم يطيقوا .
قال ابن عباس في رواية آخرى : [ . . . ] المؤمنون خاصّة وسّع الله عليهم أمر دينهم . ولم يكلّفهم إلاّ ماهم له مستطيعون ، فقال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، وقال : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجري بهراة قال : سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال : سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول : سُئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
فقال : إلاّ يسرها لا عسرها ، ولم يكلّفها طاقتها ولو كلّفها طاقتها لبلغ المجهود منها .
قال الثعلبي : وهذا قول حسن لأنّ الوسع ما دون الطاقة ، فقال بعض أهل الكلام : يعني إلاّ ما يسعها ويحل لها ، كقول القائل : ما يسعك هذا الأمر ؟ أي ما يحلّ الله لك ؟ فبيّن الله تعالى أن ما كلّف عباده فقد وسعه لهم والله أعلم . { لَهَا مَا كَسَبَتْ } . أي للنفس ما عملت من الخير والعمل الصالح ، لها أجره وثوابه { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . من الشرّ بالعمل السيء عليها وزره . { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } . لا تعاقبنا .
قال أهل المعاني : وإنّما خرج على لفظ المفاعلة وهو فعل واحد ؛ لأنّ المسيء قد أمكر وَطَرَق السبيل إليها وكأنّه أعان عليه مَنْ يعاقبه بذنبه ويأخذه به فشاركه في أخذه { إِن نَّسِينَآ } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو .
قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممّا أُمروا به وأخطأوا ، عجّلت لهم العقوبة فيحرّم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله تعالى نبيّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك .
وقال بعضهم : هو من النسيان الذي هو الترك والإغفال . قال الله تعالى : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] . والأوّل أجود . { أَوْ أَخْطَأْنَا } . جعله بعضهم من القصد والعمد ، يقال : خطيء فلان إذا تعمّد يخطأ خطأً وخطأ .
قال الله : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] . وأنشد [ أمية بن أبي الصلت ] :
عبادك يخطئون وأنت ربٌّ *** يكفّيك المنايا والحتوم
وجعله الآخرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو وهو الأصح ؛ لأن ما كان عمداً من الذنب غير معفو عنه ، بل هو في مشيئة الله تعالى مالم يكن كفراً .
قال عطاء : { إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } . يعني إن جهلنا أو تعمّدنا له .
وقال ابن زيد : إن نسينا شيئاً ممّا أفترضته علينا ، أو أخطأنا شيئاً ممّا حرّمته علينا .
وقال الزهري : سمع عمر رجلاً يقول : اللّهمّ [ اغفر ] لي خطاياي ، فقال : إن الخطايا مغفور ولكن قل : اللّهمّ أغفر لي عمدي .
قال النبطي : وحدّثنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن شنبة قال : حدّثنا عبد الله بن المصفّى السكري قال : حدّثنا محمد بن المصلّى المحمدي ، قال : حدّثنا الوليد قال : حدّثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه " . { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } . قال بعضهم : يعني عهداً وعقداً وميثاقاً لا نطيق ذلك ولا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقصه { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } . يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل والسدي والكلبي وابن جريج والفراء ، ورواية عطيّة وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي } [ آل عمران : 81 ] أي عهدي .
وقال بعضهم : الأصر : الثقل ، أي لا تشقق علينا ولا تشدد ولا تغلظ الأصر علينا كما شددت على مَنْ كان قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربح أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب منهم ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال ( والأغلال ) التي كانت عليهم . وهذا معنى قول عثمان بن عطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة والمؤرخ والقتيبي وابن الأنباري يدلّ عليه قوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 157 ] .
وقال ابن زيد : معناه : لا تحمل علينا ذنباً ليس فيه توبة ولا كفّارة وإلاّ يفعل في هذه كلّها العقد والأحكام ، ويقال للشيء الذي تعقد به الأشياء : الأصر ، ويقال : بينه وبين فلان أصرة رحم ، وما تأصرني ، أي ما [ يعطفني عليه عهد ولا قرابة ] .
وقال : أنشدني أبو القاسم السدوسي ، قال : أنشدني السميع بن محمد الهاشمي ، قال : أنشدنا أبو الحسن العبسي ، قال : أنشدنا العباس بن محمد الدوري الشافعي :
إذا لم تكن لأمرىء نعمةٌ *** لدي ولا بيننا آصره [ ولا لي ]
في ودّه حاصل *** ولا نفع في الدنيا ولا الآخرة
وأفنيت عمري على بابه *** فتلك إذاً صفقة خاسرة
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . أي لا تكلّفنا من الأعمال مالا نطيق ، هذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن زيد . وقال بعضهم : هو حديث النفس والوسوسة . وعن أبي ثوبان عن أبيه عن مكحول في قوله تعالى : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال [ . . . ] وعن أبي القاسم عن مالك الشامي أن أبا إدريس الحولاني كان يأتي أصحابه ويقول : اللّهمّ أعذني و[ . . . ] جرف إلى جهنم .
سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم في قوله تعالى { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : المشقة .
وعن أبي القاسم عبد الله بن يحيى بن عبيد قال : سمعت أبا القاسم عبد الله بن أحمد قال : سمعت محمد بن عبد الوهاب { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : يعني العشق . قال خباب : حضرت مجلس ذي النون المصري في فسطاطه ، فتكلّم ذلك اليوم في محبّة الله فمات أحد عشر نفساً في المجلس ، فصاح لا يحل من المزيد بر فقال : يا أبا القيس ذكرت محبة الله فاذكر محبّة المخلوقين ، فتأوّه ذو النون تأوّها شديداً ومدّ يده إلى وجهه ووقف منتصباً وقال له : خلقت قلوبهم واستعبرت عيونهم وتألّفوا السهاد ، وفارقوا الرقاد فليلهم طويل نومهم وقليل أحزانهم لا تعد وهمومهم لا تعقد ، أمورهم عسيرة ودموعهم غزيرة باكية عيونهم قريحة جفونهم . ( عاداهم ) الرفاق والأهل والجيران . وقال يحيى : لو تركت العقوبة بيداي يوم القيامة ما عذّبت العشّاق ؛ لأن ذنوبهم اضطراراً لا اختياراً .
قال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير ، وقال بعضهم : هو شماتة الأعداء . وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبّه قال : قيل لأيّوب عليه السلام : ما كان أشق عليك في طول بلائك ؟
قال : شماتة الأعداء . وأنشد ابن الأعرابي :
كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى *** فتهون غير شماتة الحُسّاد
إنّ المصائب تنقضي أيامها *** وشماتة الأعداء بالمرصاد
وقيل : هو القطيعة والفرقة نعوذ بالله منها . وقيل : قطع الأوصال أيسر من قطع الوصال ، وقال النظّام : لو كان للبين صورة لما [ راع ] الذنوب ولهدّ الجبال ولجمر الغضا أقل من [ . . . ] ولو عذّب الله سبحانه أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى [ حرّ العذاب ] . { وَاعْفُ عَنَّا } . أي تجاوز واصفح عن تقصيرنا وذنوبنا . { وَاغْفِرْ لَنَا } . واستر علينا ذنوبنا وتجاوز عنها ولا [ تعاقبنا ] { وَارْحَمْنَآ } . فإنا لا ننال العمل لطاعتك ولا ترك معصيتك إلاّ برحمتك ، وقيل : واعف عنّا من المسخ ، واغفر لنا عن السيئات ، وارحمنا من القذف .
وقيل : واعف عنّا ، من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وأرحمنا من العقود والأضمان . وقيل : واعف عنّا الصغائر ، وأغفر لنا الكبائر ، وأرحمنا بتثقيل الميزان مع إفلاسنا . وقيل : وأعف عنّا في سكرات الموت ، وأغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في ظلمة القبر . { أَنتَ مَوْلاَنَا } . أي ناصرنا وحافظنا ووليّنا ووال بنا { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
عطاء عن سعيد عن ابن عباس في قول الله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ } . إلى قوله : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . قال : قد غفرت لكم { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } . قال : لا أواخذكم { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } . قال : لا أحمل عليكم . { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : لا أُحمّلكم { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } . قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين .
فإنّ قيل : أيجوز أن يحمّل الله أحداً مالا يطيق ؟ .
قال الزجاج : قيل له : إن أردت ماليس في قدرته ، فهو محال ، وإن أردت ما يثقل عليه ، فلله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء لأن الذي كلّفه بني اسرائيل من قتل أنفسهم ثقل عليهم . وهذا كقولك : ما أُطيق كلام فلان ، فليس المعنى ليس في قدرتك ولكن معناه أن يثقل عليك .
فإن قيل : هل يجوز على العادل أن يكلّف فوق الوسع ؟ .
قيل : قد أخبر عن سعته ورحمته وعطفه على خلقه كما نفى الظلم عن نفسه ، وإن كان لا يتوهّم منه الظلم بحال . وقال قوم : لو كلّف فوق الوسع لكان له ؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره ، ولكنّه أخبر أنّه لا يفعله والسلام .
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن رجل عن معاذ بن جبل أنّه كان إذا ختم البقرة قال : آمين .
والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد خير الأوّلين والآخرين وعلى آله الطيّبين الطاهرين أجمعين وسلّم .
قال مسروق : نعم كنز الصعلوك سورة البقرة وآل عمران يقرأهما من آخر الليل .
وقال وهب بن منّبه : من قراء ليلة الجمعة سورة البقرة وآل عمران كان له نور مابين عجيباً إلى غريباً وعجيباً الأرض السابعة وغريباً العرش .