الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . ظاهر الآية قضاء الحوائج ، وفيها إضمار السؤال والحاجة ، كأنّه قال لهم : تكلّفنا إلاّ وسعنا ، فأجاب الله فقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .

والوسع : اسم لما يسع الإنسان وما [ يشقّ ] عليه . وقيل : [ يشق ] ويجهد .

وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة الشامي : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . بفتح الواو وكسر السين على الفعل ، يريد : إلاّ وسعها أمره ، أو أراد إلاّ ما وسعها فحذف ( ما ) .

واختلفوا في تأويله ، فقال ابن عطاء والسدي وأكثر المفسّرين : أراد به حديث النفس ، وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } . جاء المؤمنون [ عامة ] وقالوا : يارسول الله هذا لنتوب من عمل الجوارح ، فكيف نتوب من الوسوسة وكيف نمتنع من حديث النفس ؟

فأنزل الله : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } . أي طاقتها ، وكان حديث النفس مما لم يطيقوا .

قال ابن عباس في رواية آخرى : [ . . . ] المؤمنون خاصّة وسّع الله عليهم أمر دينهم . ولم يكلّفهم إلاّ ماهم له مستطيعون ، فقال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، وقال : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] .

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجري بهراة قال : سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال : سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول : سُئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .

فقال : إلاّ يسرها لا عسرها ، ولم يكلّفها طاقتها ولو كلّفها طاقتها لبلغ المجهود منها .

قال الثعلبي : وهذا قول حسن لأنّ الوسع ما دون الطاقة ، فقال بعض أهل الكلام : يعني إلاّ ما يسعها ويحل لها ، كقول القائل : ما يسعك هذا الأمر ؟ أي ما يحلّ الله لك ؟ فبيّن الله تعالى أن ما كلّف عباده فقد وسعه لهم والله أعلم . { لَهَا مَا كَسَبَتْ } . أي للنفس ما عملت من الخير والعمل الصالح ، لها أجره وثوابه { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } . من الشرّ بالعمل السيء عليها وزره . { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } . لا تعاقبنا .

قال أهل المعاني : وإنّما خرج على لفظ المفاعلة وهو فعل واحد ؛ لأنّ المسيء قد أمكر وَطَرَق السبيل إليها وكأنّه أعان عليه مَنْ يعاقبه بذنبه ويأخذه به فشاركه في أخذه { إِن نَّسِينَآ } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو .

قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممّا أُمروا به وأخطأوا ، عجّلت لهم العقوبة فيحرّم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله تعالى نبيّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك .

وقال بعضهم : هو من النسيان الذي هو الترك والإغفال . قال الله تعالى : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] . والأوّل أجود . { أَوْ أَخْطَأْنَا } . جعله بعضهم من القصد والعمد ، يقال : خطيء فلان إذا تعمّد يخطأ خطأً وخطأ .

قال الله : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] . وأنشد [ أمية بن أبي الصلت ] :

عبادك يخطئون وأنت ربٌّ *** يكفّيك المنايا والحتوم

وجعله الآخرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو وهو الأصح ؛ لأن ما كان عمداً من الذنب غير معفو عنه ، بل هو في مشيئة الله تعالى مالم يكن كفراً .

قال عطاء : { إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } . يعني إن جهلنا أو تعمّدنا له .

وقال ابن زيد : إن نسينا شيئاً ممّا أفترضته علينا ، أو أخطأنا شيئاً ممّا حرّمته علينا .

وقال الزهري : سمع عمر رجلاً يقول : اللّهمّ [ اغفر ] لي خطاياي ، فقال : إن الخطايا مغفور ولكن قل : اللّهمّ أغفر لي عمدي .

قال النبطي : وحدّثنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن شنبة قال : حدّثنا عبد الله بن المصفّى السكري قال : حدّثنا محمد بن المصلّى المحمدي ، قال : حدّثنا الوليد قال : حدّثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه " . { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } . قال بعضهم : يعني عهداً وعقداً وميثاقاً لا نطيق ذلك ولا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقصه { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } . يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل والسدي والكلبي وابن جريج والفراء ، ورواية عطيّة وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي } [ آل عمران : 81 ] أي عهدي .

وقال بعضهم : الأصر : الثقل ، أي لا تشقق علينا ولا تشدد ولا تغلظ الأصر علينا كما شددت على مَنْ كان قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربح أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب منهم ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال ( والأغلال ) التي كانت عليهم . وهذا معنى قول عثمان بن عطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة والمؤرخ والقتيبي وابن الأنباري يدلّ عليه قوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 157 ] .

وقال ابن زيد : معناه : لا تحمل علينا ذنباً ليس فيه توبة ولا كفّارة وإلاّ يفعل في هذه كلّها العقد والأحكام ، ويقال للشيء الذي تعقد به الأشياء : الأصر ، ويقال : بينه وبين فلان أصرة رحم ، وما تأصرني ، أي ما [ يعطفني عليه عهد ولا قرابة ] .

وقال : أنشدني أبو القاسم السدوسي ، قال : أنشدني السميع بن محمد الهاشمي ، قال : أنشدنا أبو الحسن العبسي ، قال : أنشدنا العباس بن محمد الدوري الشافعي :

إذا لم تكن لأمرىء نعمةٌ *** لدي ولا بيننا آصره [ ولا لي ]

في ودّه حاصل *** ولا نفع في الدنيا ولا الآخرة

وأفنيت عمري على بابه *** فتلك إذاً صفقة خاسرة

{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . أي لا تكلّفنا من الأعمال مالا نطيق ، هذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن زيد . وقال بعضهم : هو حديث النفس والوسوسة . وعن أبي ثوبان عن أبيه عن مكحول في قوله تعالى : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال [ . . . ] وعن أبي القاسم عن مالك الشامي أن أبا إدريس الحولاني كان يأتي أصحابه ويقول : اللّهمّ أعذني و[ . . . ] جرف إلى جهنم .

سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم في قوله تعالى { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : المشقة .

وعن أبي القاسم عبد الله بن يحيى بن عبيد قال : سمعت أبا القاسم عبد الله بن أحمد قال : سمعت محمد بن عبد الوهاب { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : يعني العشق . قال خباب : حضرت مجلس ذي النون المصري في فسطاطه ، فتكلّم ذلك اليوم في محبّة الله فمات أحد عشر نفساً في المجلس ، فصاح لا يحل من المزيد بر فقال : يا أبا القيس ذكرت محبة الله فاذكر محبّة المخلوقين ، فتأوّه ذو النون تأوّها شديداً ومدّ يده إلى وجهه ووقف منتصباً وقال له : خلقت قلوبهم واستعبرت عيونهم وتألّفوا السهاد ، وفارقوا الرقاد فليلهم طويل نومهم وقليل أحزانهم لا تعد وهمومهم لا تعقد ، أمورهم عسيرة ودموعهم غزيرة باكية عيونهم قريحة جفونهم . ( عاداهم ) الرفاق والأهل والجيران . وقال يحيى : لو تركت العقوبة بيداي يوم القيامة ما عذّبت العشّاق ؛ لأن ذنوبهم اضطراراً لا اختياراً .

قال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير ، وقال بعضهم : هو شماتة الأعداء . وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبّه قال : قيل لأيّوب عليه السلام : ما كان أشق عليك في طول بلائك ؟

قال : شماتة الأعداء . وأنشد ابن الأعرابي :

كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى *** فتهون غير شماتة الحُسّاد

إنّ المصائب تنقضي أيامها *** وشماتة الأعداء بالمرصاد

وقيل : هو القطيعة والفرقة نعوذ بالله منها . وقيل : قطع الأوصال أيسر من قطع الوصال ، وقال النظّام : لو كان للبين صورة لما [ راع ] الذنوب ولهدّ الجبال ولجمر الغضا أقل من [ . . . ] ولو عذّب الله سبحانه أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى [ حرّ العذاب ] . { وَاعْفُ عَنَّا } . أي تجاوز واصفح عن تقصيرنا وذنوبنا . { وَاغْفِرْ لَنَا } . واستر علينا ذنوبنا وتجاوز عنها ولا [ تعاقبنا ] { وَارْحَمْنَآ } . فإنا لا ننال العمل لطاعتك ولا ترك معصيتك إلاّ برحمتك ، وقيل : واعف عنّا من المسخ ، واغفر لنا عن السيئات ، وارحمنا من القذف .

وقيل : واعف عنّا ، من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وأرحمنا من العقود والأضمان . وقيل : واعف عنّا الصغائر ، وأغفر لنا الكبائر ، وأرحمنا بتثقيل الميزان مع إفلاسنا . وقيل : وأعف عنّا في سكرات الموت ، وأغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في ظلمة القبر . { أَنتَ مَوْلاَنَا } . أي ناصرنا وحافظنا ووليّنا ووال بنا { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .

عطاء عن سعيد عن ابن عباس في قول الله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ } . إلى قوله : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . قال : قد غفرت لكم { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } . قال : لا أواخذكم { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } . قال : لا أحمل عليكم . { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : لا أُحمّلكم { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } . قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين .

سؤال :

فإنّ قيل : أيجوز أن يحمّل الله أحداً مالا يطيق ؟ .

قال الزجاج : قيل له : إن أردت ماليس في قدرته ، فهو محال ، وإن أردت ما يثقل عليه ، فلله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء لأن الذي كلّفه بني اسرائيل من قتل أنفسهم ثقل عليهم . وهذا كقولك : ما أُطيق كلام فلان ، فليس المعنى ليس في قدرتك ولكن معناه أن يثقل عليك .

فإن قيل : هل يجوز على العادل أن يكلّف فوق الوسع ؟ .

قيل : قد أخبر عن سعته ورحمته وعطفه على خلقه كما نفى الظلم عن نفسه ، وإن كان لا يتوهّم منه الظلم بحال . وقال قوم : لو كلّف فوق الوسع لكان له ؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره ، ولكنّه أخبر أنّه لا يفعله والسلام .

ختام السورة:

وروى سفيان عن أبي إسحاق عن رجل عن معاذ بن جبل أنّه كان إذا ختم البقرة قال : آمين .

يتلوه سورة آل عمران .

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد خير الأوّلين والآخرين وعلى آله الطيّبين الطاهرين أجمعين وسلّم .

قال مسروق : نعم كنز الصعلوك سورة البقرة وآل عمران يقرأهما من آخر الليل .

وقال وهب بن منّبه : من قراء ليلة الجمعة سورة البقرة وآل عمران كان له نور مابين عجيباً إلى غريباً وعجيباً الأرض السابعة وغريباً العرش .

وقال مسروق : مَنْ قرأ سورة البقرة في ليلة توّج بها .

وفي الحديث السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن .