بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

قال الله تعالى عند ذلك : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } أي طاقتها .

ويقال : إلا دون طاقتها ويقال لا يكلف الصلاة قائماً لمن لا يقدر عليها { لَهَا مَا كَسَبَتْ } من الخير { وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } من الشر فقال له جبريل عند ذلك : سل تعط فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا " يعني : إن جهلنا { أَوْ أَخْطَأْنَا } يعني : إن تعمدنا ، ويقال إن عملنا بالنسيان ، { أو أخطأنا } يعني عملنا بالخطأ ، فقال له جبريل : قد أُعْطِيتَ ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان ، شيئاً آخر ، فقال عند ذلك : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } يعني ثقلاً { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم ، وكانوا إذا أذنبوا بالليل ، وجدوه مكتوباً على بابهم ، وكانت الصلوات عليهم خمسين ، فخففت عن هذه الأمة ، وحطّ عنهم بعدما فرض عليهم إلى خمس صلوات ثم قال : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } يقول : لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق ، فتعذبنا .

. ويقال : ما يشق ذلك علينا ، لأنه لو أمر بخمسين صلاة ، لكانوا يطيقون ذلك ، ولكنه يشقّ عليهم ، ولا يطيقون الإدامة على ذلك { واعف عَنَّا } من ذلك كله { واغفر لَنَا وارحمنا } أي : تجاوز عنا ويقال : { واعف عنا } من المسخ ، واغفر لنا من الخسف ، { وارحمنا } من القذف ، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ ، وبعضهم أصابهم الخسف ، وبعضهم القذف ثم قال : { أَنتَ مولانا } أي : أنت ولينا وحافظنا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فاستجيب دعاؤه .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ » ويقال : إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة ، وضربوا الطبل ، وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر ، علموا بخروجهم أو لم يعلموا ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع ، أوحى الله تعالى إليه هذه الآيات ، ليعلم أمته بذلك . ولهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة في هذه السورة ، وبيّن أحكام الحج ، وحكم الحيض ، والطلاق والإيلاء ، وأقاصيص الأنبياء ، وبيّن حكم الربا والدين ، ثم ذكر تعظيمه بقوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السماوات والارض إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } [ لقمان : 26 ] الآية .

ثم ذكر تصديق جميع ذلك حيث قال : { آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } ، أي صدق الرسل بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها ، وكذلك المؤمنون . كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله .

قرأ حمزة والكسائي { وكتابه } على معنى الوحدان . وقرأ الباقون { وكتبه } على معنى الجمع . ثم قال : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } ، فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون : { لا نفرق بين أحد من رسله } .

قرأ الحضرمي { لا يفرق } بالياء ، ومعناه كل آمن بالله ، وكل لا يفرق .

وقرأ ابن مسعود { لا يفرقون } بين أحد من رسله . { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، أي قبلنا ما سمعنا ، لأن من سمع ولم يقبل قيل له : أصم ، لأنه لم ينتفع بسماعه .

وقرأ أبو عمرو { من رسله } ، برفع السين ، وكذلك في جميع القرآن غير هذه الحروف الأربعة ، مثل رسلنا ورسلهم يقرأ بالسكون ، وقرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن . ومعنى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } ، أي اغفر غفرانك ، وهو من أسماء المصادر كالكفران والشكران { وَإِلَيْكَ المصير } .

يعني نحن مقرون بالبعث .

ثم قال : { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني : طاقتها قال الفقيه : حدثنا أبو الحسين قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا محمد بن عبد الله قال : حدثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ هذه الأُمَّةِ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ، أَوْ هَمَّتْ بِهِ مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ » ثم قال { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا } ، أي لا تؤاخذ أحداً بذنوب غيره ، كما قال في آية أخرى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ الأنعام : 164 ] وقوله : { إن نسينا } أي إن تركنا أو أخطأنا ، يعني إن كسبنا خطيئة ، فأخبر الله تعالى بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن المؤمنين ، وجعله في كتابه ليكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم دعوة يدعون بها من بعده ، لأن هذا الدعاء قد استجيب له ، فينبغي أن يحفظ ، ويدعى به كثيراً .

قال الفقيه : حدثنا القاضي الخليل قال : حدثنا السراج قال : حدثنا أحمد بن سعيد الرازي قال : حدثنا سهل بن بكار قال : حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاثِ خِصَالٍ : جُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِداً ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً ، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلاَئِكَةِ ، وَأُوتِيتُ هذه الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَبْلِي ، ولا تُعْطَى أَحَداً بَعْدِي »

وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، فإنَّهُمَا تَجِيئَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَالغَمَامَتَيْنِ أوْ كَالغَيَايَتَيْنِ ، أوْ كَفِرْقَتَيْنِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، وَيُحَاجَّانَ عَنْ صَاحِبِهِمَا » ثم قال : « تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ ، فإنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ » ، يعني السَّحَرَةَ .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل عليه ملك فقال له : إن الله يبشرك بنورين ، لم يعطهما نبياً قبلك ، فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لا يقرأ بحرف منهما إلا أعطيته نوراً . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لَوْ بَلَغَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ ثلاثمائةِ آيةٍ ، لَتَكَلَّمَتْ » يعني : لصارت بحال تتكلم ، لأنه لا يبقى شيء ، إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب . والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد .