السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

285

فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى بقوله تعالى :

{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي : ما تسعه قدرتها وإن شق فضلاً ورحمة { لها ما كسبت } من الخير أي : ثوابه { وعليها ما اكتسبت } من الشر أي : وِزْره فلا ينتفع بطاعتها غيرها ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكتسبه مما وسوست به نفسه كما يفيده تقديم الخبر وهو لها وعليها من الحصر ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ) .

فإن قيل : لم خص الخير بالكسب والشرّ بالاكتساب ؟ أجيب : بأنّ في الاكتساب اعتمالاً أي : اضطراباً في العمل مبالغة واجتهاداً ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت أشدّ حباً واجتهاداً في تحصيله وأعملت فجعلت لذلك مكتسبة فيه ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال قولوا { ربنا لا تؤاخذنا } أي : لا تعاقبنا { إن نسينا أو أخطأنا } أي : بما أدّى بنا إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ؛ لأنّ المؤاخذة إنما هي بالمقدور والنسيان والخطأ ليس بمقدورين ويجوز أن يراد نفس النسيان والخطأ أي : لا تؤاخذنا بهما كما آخذت به من قبلنا ، قال الكلبي : كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .

فإن قيل : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما ؟ أجيب : بأنّ المراد بذكرهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله : { وما أنسانيه إلا الشيطان } ( الكهف ، 63 ) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته وذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدّث بنعمة الله فيه ، قال الله تعالى : { وأمّا بنعمة ربك فحدّث } ( الضحى ، 11 ) { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أي : لا تكلفنا أمراً يثقل علينا حمله { كما حملته على الذين من قبلنا } أي : بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك قاله «الكشاف » » قال البيضاوي : وخمسين صلاة في اليوم والليلة ونسبها غيره من المفسرين إلى اليهود ولا تنافي بينهما إذ المراد من بني إسرائيل هم اليهود منهم فلا يرد على هذا ما قيل إنّ بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون صلاة قبل ولا خمس صلوات مع أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة } أي : قوّة { لنا به } من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي به الطاقة البشرية وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه ، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفهول ثانٍ لا للمبالغة { واعف عنا } أي : امح ذنوبنا { واغفر لنا } أي : استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة بها { وارحمنا } وتعطف بنا وتفضل علينا فإننا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك { أنت مولانا } أي : سيدنا ومتولي أمورنا { فانصرنا على القوم الكافرين } بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من حق المولى أن ينصرموا إليه على الأعداء أو المراد بالكافرين عامة الكفر .

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { غفرانك ربنا } قال الله تعالى : { قد غفرت لكم } وفي قوله : { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : لا أؤاخذكم { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } قال : لا أحمل عليكم { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : لا أحملكم { واعف عنا } الخ . . قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .

وروى مسلم وغيره أنه ( صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عقب كل كلمة : قد فعلت ) وعن عبد الله أنه قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال : { إذ يغشى السدرة ما يغشى } ( النجم ، 16 ) قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنزل الله تعالى آيتين أوّلهما آمن الرسول من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ) والكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي سنة تصوير لقدمهما ؛ لأنّ مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتحديد .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبيّ قبلي ) . وروي عنه أنه قال : ( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) أي : عن قيام الليل أو عن كل ما يسوءه وهذا يردّ قول من استنكر أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة والسلام : ( السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة ) قيل : وما البطلة ؟ قال : «السحرة » أي : أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمّل في معانيها أو العمل بما فيها ، وسموا بطلة لانهماكهم في الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين ، والفسطاط الخيمة أو المدينة الجامعة سميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أنه رمى الجمرة ثم قال : من ههنا والذي لا إله إلا هو رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف والممتحنة والمجادلة .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنّ الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فلا يقربها شيطان ) انتهى .