فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين 286

( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) أي ما تسعه قدرتها فضلا منه ورحمة أو ما دون مدى طاقتها أي غاية طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها .

التكليف هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة ، والوسع الطاقة والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه ( إن تبدوا ما في أنفسكم ) الآية لكشف كربة المسلمين ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس ، وهي كقوله سبحانه ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) قال ابن عباس : وأكثر المفسرين : إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة .

( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فيه ترغيب وترهيب أي لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها وزر ما اكتسبت من الشر ، وتقديم لها وعليها على الفعلين يفيد أن ذلك لها لا لغيرها وعليها لا على غيرها ، وهذا مبني على أن " كسب " للخير فقط ، واكتسب للشر فقط كما قاله صاحب الكشاف وغيره ، وقيل كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين ، وإنما كرر فعل وخالف بين التصريفين تحسينا للنظم كما وقع في قوله تعالى ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) .

و قيل اللام للخير وعلى للمضرة ولكن ينقض هذا بقوله تعالى ( ولهم اللعنة ) و ( عليهم صلوات ) اللهم إلا أن يقال هما يقتضيان ذلك عند الإطلاق بلا ذكر الحسنة والسيئة أو أنهما يستعملان لذلك عند تقاربهما كما في هذه الآية .

( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا ) أي لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين ، وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما فما معنى الدعاء بذلك فإنه من تحصيل الحاصل .

وأجيب عن ذلك بان المراد طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة لا من نفس النسيان والخطأ فانه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وسيأتي تخريجه .

وقيل إنه يجوز للإنسان ان يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته .

وقيل إنه ثبت شرعا انه لا مؤاخذة بهما فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا .

وقيل لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمدا وإنما يصدر عنهم خطأ أو نسيانا فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذون به فما منهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان .

قال القرطبي : وهذا لم يختلف فيه ان الإثم مرفوع وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شئ أو يلزم أحكام ذلك كله اختلف فيه ، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات ، والديانات والصلوات المفروضات ، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر ، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا ، وما كان مثله مما يقع خطأ أو نسيانا ، ويعرف ذلك في الفروع انتهى .

والآية تعليم من الله لعباده كيفية الدعاء وهذا من غاية الكرم حيث يعلمهم الطلب ليعطيهم المطلوب .

( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ) تكرير النداء للإيذان بمزيد التضرع واللجوء إلى الله سبحانه ، والإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله ، والمراد به هنا التكليف الشاق والأمر الغليظ الصعب ، وقيل الإصر شدة العمل وما غلظ على بني اسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة ، وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير وقيل العهد ، ومنه قوله تعالى : ( وأخذتم على ذلكم إصري ) .

وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا لا إلى معنى الإصر في لغة العرب فانه تقدم ذكره بلا نزاع ، والإصار الحبل الذي يربط به الأحمال ونحوها يقال أصر يأصر أصرا حبس ، والإصر بكسر الهمزة من ذلك ، قال الجوهري : والموضوع مأصر والجمع مآصر ، ومعنى الآية أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقيل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم .

( كما حملته على الذين من قبلنا ) يعني اليهود ، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة ، ومن أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، نحو هذا من الأثقال والآصار .

( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) تكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا ، والمعنى لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق وقيل : هو عبارة عن إنزال العقوبات كأنه قال لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا ، وقيل المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف ، والطاقة القدرة على الشئ .

( واعف عنا ) أي عن ذنوبنا يقال عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه عليه ( واغفر لنا ) أي استر على ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة ، والغفر الستر ( وارحمنا ) أي تفضل برحمة منك علينا وتعطف بنا ( أنت مولانا ) أي ولينا وناصرنا ، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون ، وقيل معناه أنت سيدنا ونحن عبيدك ( فانصرنا على القوم الكافرين ) فان من حق المولى أن ينصر عبيده والمراد عامة الكفرة وفيه اشارة إلى إعلاء كلمة الله بالجهاد في سبيله .

وقد قدمنا في شرح الآية التي قبل هذا انه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات " قد فعلت " فكان ذلك دليلا على انه سبحانه لم يؤاخذهم بشئ من الخطأ والنسيان ، ولا حمل عليهم شيئا من الإصر الذي حمله على من قبلهم ، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به ، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .

وقد اخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن حبان في صحيحه والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه{[293]} " وروي من طرق كثيرة وفي أسانيدها مقال ولكنها يقوي بعضها بعضا فلا يقصر عن رتبه الحسن لغيره ، وقد تقدم حديث " قد فعلت " وهو يشهد لهذا الحديث .

و قد ورد عن جماعة من الصحابة وغيرهم أن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة البقرة " آمين " .

وقد ثبت عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه {[294]} " وأخرج أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " أعطيت هذه الآية من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي{[295]} " .

وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم " إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فانزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان{[296]} " .

وأخرج مسلم والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال : فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته " .

فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل هاتين الآيتين ، وقد روى في فضلهما من غير المرفوع عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة .

و في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عن غيره ولله الحمد .


[293]:صحيح الجامع الصغير 1727. و المشكاة 6284.
[294]:مسلم 807 – البخاري 1862.
[295]:صحيح الجامع الصغير 1071.
[296]:صحيح الجامع الصغير 1795. والمشكاة/ 2145.